أشراط الساعة الكبرى (5) الخسوف والدخان وطلوع الشمس من مغربها

أشراط الساعة الكبرى (5) 

الخسوف والدخان وطلوع الشمس من مغربها

الحمد لله… وبعد:

صحَّ عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تصنعون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء“.

 

حذَّر صلى الله عليه وسلم أمته من الافتتان بالدنيا والاغترار بزهرتها رحمةً منه بهم لئلاَّ يتعلَّقوا بمتاعٍ فانٍ ونعيمٍ زائل، لكن وللأسف تجاهل كثيرٌ منهم هذا الحديث وعَمُوا عن التحذير الذي حذرهم إياه نبيهم وأشفقُ الخلق عليهم – صلى الله عليه وسلم -، فوقعوا فيما نهاهم عنه من حبِّ الدنيا والتعلُّقِ بها، فأصبحت شغلهم الشاغل يفكرون بها ليل نهار ويعملون لأجلها صباح مساء، وأصبحت المادة مسيطرة عليهم ومتحكِّمة فيهم وغفلوا عن الدار الآخرة وتكاسلوا عن العمل لها.

 

وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب نسيانهم للمغيَّبات وما سيكون في آخر الزمان من فتن وملاحم وعلامات تجعل الحليم حيراناً، ولا يثبت أمامها إلا من ثبته الله وكتب له السعادة في الدارين.

 

إنَّ من أعظم ما يقوِّي الإيمان ويرسِّخ اليقين في نفس المؤمن: الإيمان بالأخبار والأمور الغيبية التي أخبر بها اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم، لذا أُراني اليوم سأواصل بعون الله تبارك وتعالى تكملةَ الكلام عن أمور الغيب وأشراط الساعة الكبرى متحدثاً عن الخسوفات الثلاثة والدخان وطلوع الشمس من مغربها بعدما مضى الحديث في الخطب الماضية عن المهدي والدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج.

 

روى الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن أَسِيد الغفاري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعرة عدن تُرحِّل الناس “، وفي رواية: “والعاشرة نزول عيسى عليه السلام“.

 

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيكون بعدي خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب قالت قلت يا رسول الله: أيخسف بالأرض وفيها الصالحون؟ قال:” إذا أكثر أهلها الخبث” رواه الطبراني وبعضه في الصحيح.

 

فمن علامات الساعة الكبرى الخسوفات الثلاثة وهذه العلامة لم تقع بعد كغيرها من الأشراط الكبرى التي لم يظهر شيء منها، وإن كان بعض العلماء يرى أنها قد وقعت، ولكن الصحيح أنه لم يحدث شيء منها إلى الآن، وإنما وقع بعض الخسوفات في أماكن متفرقة، وفي أزمان متباعدة، وذلك من أشراط الساعة الصغرى.

 

أما هذه الخسوفات الثلاثة فتكون عظيمة وعامة لأماكن كثيرة من الأرض في مشارقها ومغاربها، وفي جزيرة العرب. قال ابن حجر رحمه الله: “وقد وجد الخسف في مواضع، ولكن يحتمل أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدراً زائداً على ما وُجِد كأن يكون أعظم منه مكاناً أو قدراً ” (فتح الباري 13 / 84).

 

هذه الخسوفات التي ستقع في آخر الزمان ليست خسوفات عادية كالتي نشاهدها ونسمع بها بل هي خسوفات عظيمة وعامة لأماكن كثيرة من مشارق الأرض ومغاربها وفي جزيرة العرب لم تُشاهد من قبل ولم تعرف البشرية من أولها إلى آخرها لها مثيلاً، تُدمِّر مناطق واسعة من الأرض وتخرِّب ما عليها وتتغير أحوال الناس وتضطرب معايشهم مما يعتبر إيذاناً بقرب الساعة ودُنُوِّ قيامها.

 

ومن العلامات الكبرى: الدخان قال تعالى: ﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الدخان: 10، 11] والمعنى: انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين واضح يغشى الناس ويعمهم، وعند ذلك يقال لهم ” هذا عذاب أليم ” تقريعاً لهم وتوبيخاً، أو يقول بعضهم لبعض ذلك. [تفسير القرطبي 16 / 130].

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:” بادروا بالأعمال ستاً ” وذكر منها: “الدخان”. رواه مسلم.

 

وعن عبد الله بن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس – رضي الله عنهما – فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت، قلت: لم؟ قال قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت” [ تفسير الطبري، وابن كثير ].

 

فالدخان آية عظيمة من آيات الله الكونية يرسله الله على الناس فيغشاهم ويعمهم جميعاً لا ينجو منه أحد ولا يفر منه مخلوق. يعذِّب به الكفار أشد العذاب وآلَمَهُ، أما المؤمن فلا يصيبه منه إلا كما تصيب الزكمةُ الإنسان. رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم:” إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه [رواه الطبراني والحديث فيه ضعف ومال ابن حجر إلى تحسينه بشواهده]. قال مجاهد: كان ابن مسعود يقول: “يملأ ما بين السماء والأرض ولا يجد المؤمن منه إلا كالزكمة وأما الكافر فتثقب مسامعه”.

 

ومن علامات الساعة العظام طلوع الشمس من مغربها قال صلى الله عليه وسلم: “لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً” متفق عليه.

 

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” أتدرون أين تذهب هذه الشمس “؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: “إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرِّها تحت العرش فتخِّرُ ساجدةً فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعةً من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرِّها تحت العرش فتخِّرُ ساجدةً ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعةً من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرِّها ذاك تحت العرش، فيقال لها: ارتفعي أصبحي طالعةً من مغربك فتصبح طالعةً من مغربها، فقال صلى الله عليه وسلم: أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً” رواه مسلم.

 

قال ربنا تبارك وتعالى في سورة الأنعام: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158]، والمقصود من قوله تعالى: ﴿ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام: 158] طلوع الشمس من مغربها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله عز وجل جعل بالمغرب باباً عرضه مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من قِبَله، وذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [الأنعام: 158] رواه الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم:” إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ” رواه مسلم.

 

قال القرطبي: قال العلماء: وإنما لا ينفع نفساً إيمانها عند طلوع الشمس من مغربها لأنه خلص إلى قلوبهم من الفزع ما تخمد معه كل شهوة من شهوات النفس وتفتر كل قوة من قوى البدن فيصير الناس كلهم لإيقانهم بدنو القيامة في حال من حضره الموت في انقطاع الدواعي إلى أنواع المعاصي عنهم وبطلانها من أبدانهم، فمن تاب في مثل هذه الحال لم تقبل توبته كما لا تقبل من حضره الموت ” التذكرة 706، التفسير 7 /146.

 

قال صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها” رواه أبوداود.

 

الخطبة الثانية

ولا بد لنا مع هذه العلامات من بعض الوقفات مع هذه الأشراط عبرةً وعظةً وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فمن هذه الوقفات:

أن كثرة الخبث وفشو المعاصي وشيوع الفواحش سبب لخسف الأرض واهتزازها وزلزلتها، فقد اهتزت الأرض في المدينة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال رضي الله عنه: يا أهل المدينة إن عادت لا أساكنكم أبداً.

 

ومن الدروس أن غفلة الناس عن الآخرة وتعلقهم بالدنيا جعل بينهم وبين الإيمان بالله حجاباً كثيفاً لا يزول إلا برؤية آية عظيمة من آيات الله، وهذا ما يحدث للناس عند طلوع الشمس من مغربها فيؤمنون ويعودون إلى ربهم ويظهرون التوبة والخضوع ولكن لا ينفعهم ذلك فقد فات الأوان، وعندما تبلغ الروح الحلقوم وتبدأ بالغرغرة، يوقن العبد ويؤمن بوعد الله ووعيده فلا يقبل منه ذلك بعدما شاهد اليقين وأصبح بصره حديد قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ق: 22].

 

إن تأخير التوبة أو التسويف بها لا يجوز فلا يدري أحد متى تحين ساعته ويدنو أجله فالموت يطلبه في كل ساعة وهو أقرب إليه من شراك نعله، قال صلى الله عليه وسلم:” الجنة أقرب لأحدكم من شراك نعله والنار مثلُ ذلك “. رواه البخاري. قال ابن الجوزي: “معنى الحديث أن تحصيل الجنة سهلٌ بتصحيح القصد وفعل الطاعة، والنار كذلك بموافقة الهوى وفعل المعصية”.

 

عباد الله، وللتوبة شروط: فإذا كانت المعصية بين العبد وربه عليه أن يقلع عن الذنب فوراً وأن يعزم ألا يعود إليه ثانية وأن يندم على ما بدر منه، وإن كانت المعصية متعلقة بحق آدمي فهذه الشروط الثلاث ويُزاد عليها شرط رابع وهو أن يستحل من صاحب الحق، فإن كان له عنده مظلمة ردها عليه وإن كانت غبية استحله منها وهكذا في سائر المعاصي المتعلقة بحقوق الآدميين.

 

اللهم تب على التائبين واغفر ذنوب المستغفرين، اللهم تقبل توبتنا واغسل حوبتنا ووفقنا للتوبة النصوح قبل الممات..