اغتنام فضائل الأوقات
اغتنام فضائل الأوقات 25-11-1443هـ
الحمد لله؛ أحصَى كل شيءٍ وعلِمَه،
وأتقنَ ما صنَع وأحكمَه، أحمده وأشكره على ما وهبَ من العلم وفهَّمَه، وأشهد ألا
إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من عرفَ الحقَّ والتزمَه، وأشهد أن نبيَّنا
وشفيعنا محمدًا عبده ورسولُه صدعَ بالحق وأسمعَه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى
آله وأصحابه وأتباعه ممن عزَّره ووقَّرَه وكرَّمه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما
بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: يعيش المرء عمراً مقدراً له منذ الأزل في هذه الحياة السريعة الزوال، لا يتقدم عليه ولا يتأخر، وهذه حقيقة لا يجهلها أحد من الناس، إنما الذي يجهله الكثير هو قيمة العُمر الذي يعيشه، ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وإن كثيراً من الناس لا يبالي أكسب عمره وزمانه أم خسره، لعدم إدراكه قيمة الوقت، وأنه إن فات لا يعوض بحال ، فعمرك أيها الإنسان هو أنفس ما تملكه في هذه الحياة كما قال الوزير ابن هبيرة:
والوقتُ أنفسُ ما عُنيت بحفظه***وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ؟!
فإن سوَّفت لأمر المستقبل فإن التسويف وهْم حاضر، لأنك لا تدري هل تدرك المستقبل أم لا، فكان عليك الحرص على وقتك وحينك
ما مضى فات والمؤمل غيبٌ***ولك الساعةُ التي أنت فيها
فاحرص على استغلال ساعتك التي تعيشها بما ينفعك في دينك ودنياك، فهؤلاء أرباب المال والأعمال يحرصون على استغلال أوقاتهم في عمارة الدنيا وإنجاز الأعمال، فلا يضيعون شيئاً من الوقت لتحقيق مكاسبهم، وهذا أمر مطلوب لعمارة الدنيا وتحقيق المصالح، إلا أن هذا ليس هو كل ما ينبغي الحرص عليه، فبقاء المرء في الدنيا ليس فقط لعمارتها، بل لعمارة الحياة التي سيقدم عليها إن عاجلاً أو آجلاً، لأن الدنيا في حقيقتها معبر وممر للدار الآخرة، فالمرء في دنياه يمخر في سَفرٍ جاد، والمسافر لابد له من التزود لطريق دار المقامة ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾. فدار المقامة هي دار الإقامة التي لا نقلة معها عنها ولا تحول، لا يصيبهم فيها تعب ولا وجع ولا لغوب وهو: العناء والإعياء.
وهذا ما أمرنا به الحق سبحانه بقوله: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، فالعمل لدار المقامة هو الأساس من الحياة الدنيا، فلا ينبغي لعاقل أن يفرط في العمل لذلك اليوم، ما دام لديه فسحة من الأجل
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها***إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنُه***وإن بناه بشرٍ خاب بانيها
وما كانت الفرائض التي افترضها الله تعالى على عباده، ومواسم الطاعات، إلا لأجل تلكم الدار حتى نسعد فيه، فمن فرط في اغتنام عمره لما ينفعه في دار المقامة يكون قد خسر خسراناً مبيناً، قال ﷺ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ».
غدا تُوفى النفوسُ ما كسبت***ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم***وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
وها هي أنفس الأوقات قد هبَّت علينا؛ إنها أوقات عشر ذي الحجة التي أقسم الله تعالى بها تنويها بفضلها، فقال جل شأنه: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾، أي هل يدرك ذو الحِجر – وهو العقل – سر هذا القسم؛ إنه قسم للتنويه بفضل هذه الأوقات والأيام المباركة حتى ينتبهوا لها ويغتنموها فيما ينفعهم، وهو ما بينه النبي ﷺ بقوله: «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر»، فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ فقال رسول الله ﷺ: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
ومن فضل الله تعالى أنه لم يحدد عملاً صالحاً في هذه العشر، بل عممه ليفعل المسلم ما استطاع منه، صياماً أو صلاة أو صدقة أو أضحية أو غير ذلك من الطاعات، فضلاً عن الحج والعمرة، فالمسلم الحصيف هو الذي يغتنم هذه الأيام الفاضلة بعمل ما يقدر عليه من الصالحات..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين
اصطفى، وبعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعمروا العشر بالعمل الصالح، فهي
الأيام التي أقسم الله بها في محكم الآيات، وهي أيام إجابة الدعوات ومضاعفة
الحسنات، فاعمروها وقوموا فيها بطاعة الله وإظهار التكبير والتهليل والتحميد،
ولنبادر باغتنام هذه الأيام الفاضلة، قبل أن يندم المفرّط على ما فعل، وقبل أن
يسأل الرّجعة فلا يُجاب إلى ما سأل.
وصلوا
وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله امتثالاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ
وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وقوله ﷺ:« من صلى علي صلاة صلى
الله عليك بها عشرا. » اللهُم صل وسلم على صاحب الوجه الأنور، والجبين
الأزهر، والشفيع المُشفع يوم المحشر، الذي شُق له القمر، وسلم عليه الحجر والشجر، وارض
اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر أصحابه
وأزواجه ومن تبعهم إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وموتى المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.