الأسرة وعشر ذي الحجة
الحمد لله؛ له الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، ما خاب من رجاه، ولا أفلح من قلاه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، نبي شرح الله صدره، ورفع ذكره، وجعل الذلةَ والصَّغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، صلاة دائمة إلى يوم الدين وسلم تسليمًا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، عباد الله يَمنحنا الله تبارك وتعالى مواسم الخير؛ ليشحن المسلم طاقته الإيمانية، ويعزِّز عبوديته لربه سبحانه، فيُقبل مرة أخرى على الطاعة بعدما أُصيب البعض بالفتور الذي يقتل الروح والقلب، فيستفيق القلب من غفلته، وتسمو النفس على أهوائها، وتنشط الجوارح لتستعيد عملها وروحانيتها من جديد، وتأتي العشر من ذي الحجة لتذكِّرنا بالآخرة، وتُعيد إقبالنا على الله تعالى باستثمارها في الأعمال الصالحة، فهذه الأيام الفاضلة أقسم الله جل وعلا بها، والإقسام بالشيء دليلٌ على أهميته وجلالة قدره؛ قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما وغيرُ واحد من السلف والخلف: إنها عشرُ ذي الحجة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ»،قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه؟! قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ! إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»؛ أخرجه البخاري وغيره.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما حثَّ فيها على العمل الصالح في عشر ذي الحجة لفضلها وعظيم نفعها؛ لأن فيها يوم عرفة ويوم النحر، وفيها الأضحية والحج، وتميزت باجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والأضحية والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.
والأسرة المسلمة لها دورٌ مهم ومؤثر في تعظيم تلك الشعائر وتوقيرها في نفوس الأبناء وربط النشء بها، من خلال تعاون الأب والأم لتحقيق استفادتهم القصوى من هذه الأيام الفاضلة، فهذه الأيام الفاضلة أيام لا تعوَّض، وهي فرصة تربوية متكاملة يُمكن استثمارها في رفع المستوى الإيماني للأسرة كلها، وخصوصًا الأطفال الذين ينشؤون على ما عوَّدهم أهلوهم، فلا يستوي من غرس في أبنائه تعظيمَ وتوقير شعائر الله مع مَن ترك لأبنائه الحبل على الغارب دونما رعايةٍ وتربية، وكلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته.
الأسرة المسلمة في مثل هذه الأيام تستذكر قصة أسرة التوحيد الأولى التي ارتبطت بها هذه الأيام، أسرة الخليل إبراهيم عليه السلام التي كانت أول أسرة موحدة في تاريخ البشرية، وما حرانا أهل الإسلام أن نستذكر مواقفَها الخالدة ومساهمتها في بناء بيت الله المحرم، ودورها في سبيل دعوة التوحيد.
فهذا إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام يَمتثلان أمر الله تعالى؛ ليضحي الأب بفلذة كبده الذي انتظره عقودًا طويلة، وها هو الابن الذي هانت عليه نفسُه في ذات الله، فكان نعم الابن المطيع لأوامر ربه لثقته أن والده على الصواب ولن يأمرَه ربُّه بمعصية مطلقًا، فجاء الفداء وحُسن الثناء، فما أجمل أن تستثمر الأسرة هذه القصة قصة الفداء العظيم في زرع معاني الصلة القوية بالله، والثقة به، والتوكل عليه، والتسليم لأوامره، والحرص على تلبية أوامر الله والإقبال عليها بكل ثباتٍ ويقين، حتى وإن ظهرت في بعض الأوقات صعبة على النفس، إلا أن في مضمونها حسن العاقبة وسعادة الدنيا والآخرة.
وفي موقف السيدة هاجر مع طفلها الرضيع إسماعيل، وقد وضعت في واد غير ذي زرع، وحسن ثقتها بالله حافظًا ووكيلًا: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37]، فجاء بها إبراهيم ومعها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت، فوضعهما ثم رجع، فاتبعته، فقالت: إلى أيِّ شيء تكلنا؟ إلى طعام تكِلنا؟ إلى شراب تكلنا؟ فجعل لا يردُّ عليها شيئًا، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضيعنا.
ومن الوظائف الجليلة لهذه العشر: ذكر الله تعالى من خلال الجهر بالتكبير والتهليل والتحميد، وقد خصَّ النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأول من ذي الحجة بتلك الطاعة، فقال: «فأكثروا فيهنَّ من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير»، قال البخاري في صحيحه: وكان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبِّران ويكبر الناس بتكبيرهما، وكان ابن عمر يكبر بمنًى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسه، وممشاه، تلك الأيام جميعًا.
فالأسرة تجعل العشر إعلانًا لتعظيم الله وشعائره، وإحياء السنة، وتنمية وغرس الذكر في نفوس الأبناء، ولفت نظرهم لتلك العبادة بالجهر وترديد الذكر أمام الأبناء من حين لآخر، حتى يعقلوه ويفهموه، والتكبير المشروع أن يكبِّر كلُّ مسلمٍ لنفسه منفردًا، ويرفع صوته به حتى يسمعه الناس، فيقتدوا به ويذكرهم به.
وبعد انقضاء شهر رمضان، وما تبِعه من صيام ست من شوال، تأتي عشر ذي الحجة لتعيد للأسرة المسلمة الجو الإيماني، فيتجدَّد صوم الروح والبدن معًا، وصيامها داخل في العمل الصالح، وصوم يوم عرفة سنة لغير الحاج، ويكفر سنتين فضلًا من الله ومنةً، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»؛ أخرجه مسلم.
وهذه فرصة إيمانية لا ينبغي لمربٍّ أن يفرِّط فيها، فالكل يسعى إلى الله طمعًا في مرضاته متذللًا بين يدي رحمته، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء».
ومشاهدة الأسرة لشعائر الحج، ووقوف الحجيج في عرفات، والاستماع إلى خطبتها مع تعريف الأب والمربي بالمناسك – له أثرُه العملي في غرس أركان الإسلام؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لتأخذوا عني مناسككم»، وكذلك تعظيم أيام الله كيوم النحر وأيام التشريق بالذكر والتكبير، وإظهار الفرح بالعيد مقرونًا بالشكر وتنمية ذلك لدى الأبناء، لتبقى شعائر الدين ظاهرة ثابتة في أقوالهم وأفعالهم وفي ذاكرتهم.
ومن المعاني التربوية إشراكهم في العمل الصالح في شراء الأضحية، وتوزيعها وَفق الهدي النبوي، فقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبَّر، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدَع الأضحية، ففيها إحياء ملة أبينا إبراهيم واتِّباع سنة نبينا محمد عليهما الصلاة والسلام، وتطبيق السُّنة في الأكل منها، والإهداء للأقارب والجيران، والصدقة على أهل الحاجة.
كل هذه الدروس العظيمة والمواقف الرائدة في موسم العشر والحج، يكون لها بالغ الأثر حين يتم استعراضُها في هذه الأيام، ولفت الانتباه إليها، وبثها قدرَ المستطاع عبر الوسائط المسموعة والمرئية ووسائل التواصل، فالدال على الخير كفاعله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى، واعمُروا هذه العشر بالعمل الصالح، وربُّوا من تحت ولايتكم على تعظيم شعائر الله، وحثُّوهم على القيام بطاعة الله وذكره وحسن عبادته، والمبادرة للأعمال الصالحة في هذه الأيام الفاضلة.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم محمد بن عبدالله امتثالًا لقول ربكم جل في علاه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا»، اللهُم صلِّ وسلِّم وزِدْ وباركْ على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والشفيع المُشفع يوم المحشر، الذي شُقَّ له القمرُ، وسلَّم عليه الحجرُ والشجر.
وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة وأصحاب الشجرة، وعن سائر أصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين.
اللهم آمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا وولي عهده لكل خيرٍ، واحفَظ الحجاج والزوَّار والمعتمرين، وردَّهم إلى ديارهم سالمين غانمين.
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ثبِّتنا على دينك وتُبْ علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم فرِّج همومنا، واقضِ ديوننا، واشفِ مرضانا، وارحَم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.