البناء على القبور مفاسد وشرور
خطبة ” البناء على القبور مفاسد وشرور”
الحمد لله العلي الكبير، المتفرد بالخلق والتدبير، أحمده وأشكره أعز أولياءه بالتوحيد، فنعم المولى ونعم النصير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
لقد أخبر الصادق المصدوق عن وقوع الشرك في هذه الأمة مشابهة للأمم السابقة من اليهود والنصارى، ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدخلتموه، قُالوا: يَا رَسُولَ الله! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ».
وقد وقع ما أخبر به النبي ﷺ، فأصبح الشرك في هذه الأمة واقعاً مشاهداً؛ فكان فيها مَن يفعل فعل اليهود والنصارى، ويأخذ مأخذ القرون كفارس والروم، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور، وصرفت لها العبادات والنذور، وعكف عندها عباد القبور يسألونها قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
لقد حرص الرسول ﷺ على حماية التوحيد، واشتدت شفقته وحرصه على أمته حتى في أصعب الأوقات؛ ونزلت بروحه الشريفة السكرات؛ فلاقى من شدتها وهولها ما لاقى، ومع ذلك حذر وأنذر من الشرك ووسائله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة: «يحذِّر ما صنعوا». رواه البخاري ومسلم.
قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد، وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها». لفظ مسلم. أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدى إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام؛ فحذر النبي ﷺ عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك؛ فقال: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد».(القرطبي: الكهف آية21).
وأخرج مسلم عن جُنْدَب بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه أنَّه قال: سمعت النبيَّ ﷺ قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: «أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ».
وفي الصحيح أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور؛ فقال ﷺ: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله».
قال ابن عبد البر: هذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء والصالحين مساجد. (التمهيد 1/167).
قال الشيخ ابن باز: ” والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد نص الأئمة من علماء المسلمين من جميع المذاهب الأربعة وغيرهم على النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وحذروا من ذلك عملاً بسنة الرسول ﷺ، ونصحاً للأمة، وتحذيراً لها أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من غلاة اليهود والنصارى وأشباههم من ضُلال هذه الأمة” (الفتاوى 1/433).
وقد حمى الله تعالى قبر نبيه ﷺ فلم يُتخذ مسجدًا، وأجاب دعوته في قوله ﷺ: «اللهم لا تجعل قبري وثنًا». فلما مات عمل الصحابة بوصيته؛ فلم يبرزوا قبره، بل دفنوه في بيته؛ فالأنبياء يدفنون حيث يموتون، وخشية أن يُتَّخذ قبره مسجدًا فيؤدي ذلك إلى عبادته، وهذا من عناية الصحابة بمقام التوحيد.
إن هدي النبوة القويم، والحُكم الواضح المبين، هو تحريم البناء على القبور، وهدم ما كان مبنيًّا منها، وتسويته بالأرض، فعن أبي الهيّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ؛ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته». رواه مسلم، وقد قرر أهل العلم مشروعية هدم البناء على القبور، قال الشافعي: «وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْوُلَاةِ مَنْ يَهْدِمَ بِمَكَّةَ مَا يُبْنَى فِيهَا فَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ ذَلِكَ». (الأم:1/316). وقال ابن حجر الهيتمي: «وتجب المبادرة لهدم القباب التي هي على القبور، إذ هي أضرّ من مسجد الضرار، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر». (الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/149).
فالقدرة والاستطاعة هي منوط إزالة هذه المشاهد والأبنية على القبور، وموجب هدمها، مع توخي الحكمة ومراعاة قواعد المصالح والمفاسد.
إن اتخاذ القبور مساجد له صور عديدة كبناء القباب عليها، والصَّلاة عندها وإليها، وأشدُّ من ذلك وأعظم أن يُصرف لأهلها شيء من العبادات؛ من طواف وسجود ونذور ودعاء مَن في القبور، وسؤالهم المدد، وتفريج الكرب، وإزالة الشدائد، وهذا من الشرك الأكبر.
ومما يدخل في ذلك النهي: زخرفة القبور وإسراجها وتجصيصها، والكتابة عليها، ووضع الستور، وتعليق الصور عليها، وكل ذلك وسيلة إلى الشرك وعبادة أصحابها.
ولم يكن في العُصُورِ المفضَّلَةِ مشاهدُ تبنى على القبورِ، وإنما ظهر ذلك حين ضعفت الخلافة العباسية، وتفرقت الأمة، وكثر فيهم الزنادقة الملبسون على المسلمين، وفشت فيهم كلمة أهل البدع، كما في دولة بني بويه، والقرامطة، والفاطميين العبيديين، والحمدانيين، وجميعهم روافض، وإن تفاوتوا في درجة الغلوّ، لكنهم يَستترُونَ بالتشيُّع وهدفهم تبديلُ دينِ الإسلامِ، وتبع هؤلاء الزنادقة المتصوفة الجهال، فبنَوا المشاهدَ والأضرحة المكذوبة، ووضعوا الأحاديث في زيارتها والتبرك بها والاستغاثةَ بالأموات ودعائهم من دون الله تعالى، فصاروا يعظمون المشاهد ويهجرون المساجد!
إن إباحة بناء المساجد والمشاهد على القبور والصلاة فيها إنما هو رأي أهل الضلال والبدع المخالفين لطريقة أهل السنة والجماعة، ومن غربة الإِسلام أن هذه الأمور قد فعلها بعضٌ من متأخري هذا الأمة، واعتقدوها قربة من القربات؛ وهي من أعظم السيئات؛ ومصادمة للشريعة، ورَدٌّ للسنة، فاتخاذ قبور الأنبياء والأولياء والصَّالحين وغيرهم مساجد قد نهى عنه النبي ﷺ، ولعن مَن فعله، وأخبر أنهم شرار الناس عند الله يوم القيامة، فليحذر المسلم الموحد من ذلك أشد الحذر، وتجنبه غاية الاجتناب.
وبعد معاشر الموحدين: فإن زيارة القبور مشروعة للاعتبار والاتعاظ وتذكر الموتِ والآخرة، والإحسان إلى الأموات، بالسلام عليهم، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وسؤال العافية لهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ* إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾.
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله، واعبدوه حق عبادته ولا تشركوا به شيئاً، ولتحذروا براثن الشرك وطرائقه، وحققوا التوحيد تفلحوا، فإن التوحيد ولله الحمد منتشر ومنتصر كما أخبر ﷺ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله». جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وجوده وكرمه.
وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال وهو الصادق في قيله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك، محمد الرسول المصطفى، والنبي المجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة، وأصحاب الشجرة، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفِّق وليَّ أمرنا ونائبه لما تحب وترضى، اللهم أعذنا من الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن.
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفِّسْ كروبنا، وعافِ مبتلانا، واشفِ مرضانا، وارحم موتانا. ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.