العمر الثاني ( خطبة )

العمر الثاني

الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد عبده رسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

أما بعد، عباد الله؛ اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

عباد الله:

ما من أحدٍ من الناس إلا وهو يريد أن تطول حياته، فالمؤمن يتمنى ذلك ليعمُر دينه ودنياه، ويزداد طاعةً وإقبالًا على مولاه، وهو ما يحبِّذه الشارع الحكيم كما في الحديث عنْ أَبي هُريرة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ، إِمَّا مُحسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ»، متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري. وفي روايةٍ لمسلم: عن أَبي هُريْرةَ: «لا يَتَمَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ، وَلا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذا ماتَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لا يَزيدُ المُؤْمِنَ عُمرُهُ إِلَّا خَيرًا». وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من خير الناس؟ قال: «من طال عمُره، وحسُن عمله».

والنفس مجبولةٌ فطرةً على حب الحياة وكراهية الموت كما قالت أمُّنا عائشة رضي الله عنها: «كلنا نكره الموت»، غير أن تلك الأمنية وتلك الكراهية لا تغير من الأمر شيئًا؛ فإن الله تعالى قد كتب الموت على الخليقة وقضاه على من سواه سبحانه، فهو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، فالموت حتمٌ على رقاب العباد.

إلا أن مفهوم الموت والحياة قد يختلف من شخص لآخر، فمن الناس من يعيش حيًا وهو في الحقيقة ميت، ومن الناس من يكون ميتًا لكنه حي، كما قال الحكيم:

قد مات قومٌ وما ماتتْ مآثرُهم *** وعاش قومٌ وهم في الناسِ أموات

فالموت الحقيقي هو موت القلب والعقل والضمير، كما قال الله تعالى: ﴿ أومن كان ميتًا فأحييناه ﴾ [الأنعام: 122]، وقوله جل شأنه: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى ﴾ [النمل: 80]، فمثل هؤلاء هم أحياء بأجسادهم لكنهم موتى بعدم الانتفاع بشيء من حياتهم لآخرتهم..

ليس من مات فاستراح بميْتٍ *** إنما الميْت ميِّتُ الأحياء

والحياة الحقيقية هي التي تكون ذاتَ أثرٍ في نفسها بالانتفاع بسماع الحق، والبقاء بالذكر الحسن بعد الانتقال لدار البقاء، كما قال الله تعالى في شأن الشهداء: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154]، فهؤلاء أحياء بما تركوا من أثر في حماية الدين والدنيا، وكذا من بقي أثرُه بصالح عمله من علم ينتفع به، أو عملِ خير ينتفع به الناس فيذكر عندهم بالثناء والدعاء، وهذا ما أراده أبو الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بدعوته ربه: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]، فأعطاه الله ذلك كما قال سبحانه: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50]، فكل البشرية تثني عليه وعلى ذريته، فهذا الذكر يعد حياة ثانية للمرء يعيش بها كأنه حي في جميع الأعصار والأمصار، كما قال شوقي:

دقات قلب المرء قائلة له إن الحياةَ دقائقٌ وثواني فارفع لنفسك بعد موتك ذِكرها فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني 

ومثل هذه الحياة هي في متناول كل إنسان، إن صحبه الإخلاص والتوفيق للعمل الصالح فيعيش بها في دار برزخه كما لو كان في حياته.

والذين يعيشون في هذه الحياة الثانية كثيرون وموفقون من الخلفاء الأربعة وبقية العشرة والصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان والأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وعلماء السنة والحديث والفقه والدعوة السلفية الذين خدموا الدين، وما من سبيل ينفع الناس إلا سلكوه، وأبقتهم آثارهم الحميدة الكثيرة أحياء، فلا يذكرون إلا بلسان الثناء والدعاء والوفاء؛ لمآثرهن الخيِّرة في العلم والاحسان إلى الناس بحالهم ومالهم.

وفي الهدي النبوي يقول عليه الصلاة والسلام: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فالموفق يحرص على بقائه حيًا في هذه الحياة بجعل شيء من ماله وقفا لله تعالى، يحبس أصله ويبقى نفعه، وأجره وذكره، مثل الوقف على المشاريع الخيرية والمساجد والمدارس والمستشفيات وغيرها.

ومما يبقى أثره ويدوم خيره الدعاء الصالح للعبد من الولد وغير الولد، فهو بذلك باقٍ في هذه الحياة التي فني عنها الكثير، فما أعظم هذه الحياة التي يعيشها المؤمن العالم والعامل والباذل في برزخه يتفيأ فيها ظلال إحسانه ويجني ثمار الدعوات الصالحة من الناس.

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة …

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ، وكفى وسمع الله لمن دعا، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، ورحم الله عبدًا عمل لأخرته، وأخلص لربه وسعى لخدمة دينه وأمته فقبل الله عمله، وشكر سعيه، وأبقى ذكره في الغابرين.

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا ونائبه لكل خير.

اللهم اصرف عنا شر ما قضيت، وادفع عنا الغلا والوبا والرِبا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.

اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وموتى المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/148073/#ixzz70Pq5usLc