المحافظة على الأعمال
الحمد لله الواحد الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، أحمده سبحانه حمداً لا يُحدَّ، وأشكره شكراً لا يُعدَّ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا صاحبة ولا ولد، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الأبيض والأحمر والأسود، صلى الله وسلم وبارك عليه، هدى بإذن ربه إلى المنهج الأرشد، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم وجد واجتهد.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فإن تقوى الله أربح بضاعة، واحذروا معصيته؛ فقد خاب عبد فرط في أمر الله وأضاعه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾.
معاشر المؤمنين: في هذه الأيام يعود الحاج إلى مسكنه وموطنه قافلاً من أداء عبادة عظيمة جليلة ربما كان من المقبولين، فرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومنهم من رجع وقد حجت دابته، ولم يحج لله من قلبه شيء أبداً.
والناس يتباينون بعد الفراغ من أداء العبادة في أحوالهم؛ فمنهم من إذا أدى العبادة وفرغ منها أدركه شعور بالخوف ونابه الوجل وأصبح يقلب كفيه خوفاً ألا يكون سعيه قد قُبل؛ فذاك عسى أن يكون من الذين قال الله فيهم، ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾.
قال ابن كثير رحمه الله: ” أي خائفون من الله مع ما أحسنوا وآمنوا وعملوا والصالحات ووجلون من مكره بهم، قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة وإن المنافق جمع إساءةً وأمناً “.
أولئكم الذين سألت عنهم عائشة -رضي الله عنها- النبيَ ﷺ فقالت يا رسول الله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل! فقال: «لا يا ابنة الصديق ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهم يخافون ألا يتقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات». رواه الترمذي وأحمد.
هذا هو دأب الصالحين من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم بإحسان كانوا إذا أدوا العبادة أدركهم الخوف والوجل والخشية والإشفاق هل قبلت أم لم تقبل! وهل رفعت أم ردت!، كانوا يتهمون أنفسهم بالتقصير والتفريط مخافةَ أن يدركهم هذا حتى يَرِدَ الواحد منهم على ربه آمناً مطمئناً.
قال إبراهيم التيمي ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً، وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل، ويذكر عن الحسن ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
والصحابة الأجلاء كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولا يلزم من خوفهم أنهم وقعوا في هذا الشيء بعد، وإنما ذلك على سبيل عظيم العناية في المحافظة على الأعمال.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، «أنَّ النَّبيَّ ﷺ افْتَقَدَ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لكَ عِلْمَهُ، فأتَاهُ فَوَجَدَهُ جَالِسًا في بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ، فَقالَ: ما شَأْنُكَ؟ فَقالَ: شَرٌّ؛ كانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبيِّ ﷺ، فقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، وهو مِن أَهْلِ النَّارِ، فأتَى الرَّجُلُ فأخْبَرَهُ أنَّهُ قالَ كَذَا وكَذَا. [وفي رِوايةٍ:] فَرَجَعَ المَرَّةَ الآخِرَةَ ببِشَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقالَ: اذْهَبْ إلَيْهِ، فَقُلْ له: إنَّكَ لَسْتَ مِن أَهْلِ النَّارِ، ولَكِنْ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ». متفق عليه.
وهذا أبو بكر صديق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها ووزيره وخليفته من بعده على أمته، الذي صدق النبي ﷺ يوم كذبه الناس، وآزره يوم خذله الناس، يبكي خوفاً وجزعاً، ويقول عند موته: يا ليتني أقدم على ربي كفافاً لا ليَ ولا عليّ!
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهيدُ المحراب الإمام الأواب الذي وافق حكمهُ حكمَ الكتاب يسألُ حذيفة يتبعه هل عدني رسولُ الله ﷺ من المنافقين!
هكذا كان أصحاب رسول الله ﷺ مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة، يخْشَوْنَ أنْ تَحْبَطَ أعمالُهم، وألاَّ تقبل منهم؛ لرُسوخِ عِلمِهِم، وعَمِيقِ إيمانِهم، كانوا جبالاً في العمل وجبالاً في الخوف والوجل، ولنتأمل حال كثير منا يا عباد الله إذا أدى الواحد منا عبادةً نظرَ إلى نفسه نظر الرضا وقلب بصره في عطفيه مدلاً معجباً كأنما يمنُ على ربه بعبادته، ناهيك عن حديثه بما فعل وعن تصديره مناقبه وما أحدث وما حصل.
إن من الأمور الخطيرة التي تفسد الأعمال أن يُدِلَ الرجل بعمل، وكأنما على الله شرط أن يقبلَ كُلَ سعي سعاه ساع بغض النظر عن إخلاصه أو تحقيقه الموافقةَ للنبي ﷺ.
والعبد يحتهد في عمل الطاعات، وقد يزل زلة أو يقع في مهواة أو يتكلم بكلمة من عجبٍ أو جرأة على الله تعالى؛ فأحبطت عمله، وجعلته هباء منثوراً، أو كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
إن الشرك بالله تعالى أعظم محبط للأعمال، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وسألت عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ عن عبد اللَّه بن جُدْعان وكان رجلاً مشركًا مات في الجاهلية يطعم الطعام وينصر المظلوم وله من أعمال البر الكثير، فقال ﷺ: «ما نفعه ذلك، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين». رواه البخاري.
إن مما يخيب سعي العاملين الرياء في العمل، وهو أن يطلب العبد بعمله ثناء الناس ومدحهم وذكرهم، وفي الحديث القدسي: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَه». رواه مسلم.
إن في هذا الدين فرصاً عظيمةً ومواسمَ جليلة تتضاعف فيها الأعمال وتتزايد فيها الحسنات؛ ولكن هناك آفاتٌ إذا حل بها العبد أو وقع فيها ربما أتت على أول عمله وآخره؛ فالعبد قد يضل سعيه بسبب كلمة قالها؛ قال ﷺ: «وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم». رواه البخاري.
ومن مفسدات الأعمال ظلم الناس والاعتداء عليهم قولا أو فعلا؛ فحقوق الناس مبنيةُ على العدل والمقاصة بينهم؛ قال ﷺ:” أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ ” قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ!! فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»، رواه مسلم.
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ﴾ قال القرطبي: يفر لأنه يخاف من أن يروه فيطالبوه بحقوقهم عليه في الدنيا التي قصر فيها.
فحافظوا -رحمكم الله- على أعمالكم، واحذروا مما يُحبِطُ الأعمال، ويأكلُ الحسنات؛ من الرياء، والغِيبَة، والنَّميمة، والكِبر، والظُّلم، وأكل الحرام، وتقطيعِ الأرحام، وحذار من الانهِماك في مواقع التواصُل والمرئيات بما لا يُفيد، ويُهلِكُ القلوب، ويُفسِدُ العقول، ويُشغِلُ عن الطاعة، ويُضيِّعُ المسؤوليَّات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واحذَروا الغرورَ والأمانِي، ومدَّ الحِبال في المعاصِي، وإياكم واستِصغارَ الذنوب، إياكم ومُحقَّرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾. يقول أنسٌ -رضي الله عنه-: «إنكم تعمَلون أعمالاً هي في أعيُنِكم أدقُّ من الشعَر، كنَّا نعُدُّها على عهد رسولِ الله ﷺ من المُوبِقات».؛ رواه البخاري.
واحذروا الجرأة على المعاصي في الخلوات وكونوا ممن قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله امتثالاً لقول ربكم جل في علاه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، اللهُم صل وسلم وزد وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والشفيع المُشفع يوم المحشر، الذي شُق له القمر، وسلم عليه الحجر والشجر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية العشرة وأصحاب الشجرة، وعن سائر أصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تحب ويرضى، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ثبتنا على دينك وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، اللهم فرج همومنا، واقض ديوننا، واشف مرضانا، وارحم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.