تربية البنات في الإسلام
خطبة تربية البنات في الإسلام
الجمعة 19- 2-1441هـ
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصًا حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، للبنت في رحاب الإسلام قيمة ومكانة، فهي رمز الحياء، وعنوان العفة، وصانعة الأبطال، ومربية الأجيال، لقد أنزلها الدين الإسلامي منزلة الحب والاحترام، وجعل لها بحكم فطرتها وطبيعتها رعاية خاصة، إعدادًا للدور الكبير الذي ينتظرها في الحياة لتكون زوجة صالحة، وأم المستقبل، وخير النساء من تعي دورها التربوي والأسري، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ”؛ متفق عليه.
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أَبا لبنات، رباهن فأحسن التربية، أَربع بنات، كلهن من السيدة خديجة رضي الله عنها، وُلدن قبل الإسلام وهن زينت، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، فأما فاطمة رضي الله عنها فقد ولدت قبل النبوة بِخمس سنِين، وزينبُ تزوجها العاص بن الربيع رضي الله عنه، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه، تزوج أم كلثوم بعد رقية، لقد أدركن الإسلام وأسلمنَ وعشنَ في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش معهن لحظة لحظة من الْولادَة إِلَى الْوفاة، فكل أولاده توفى قبله، إِلا فاطمة رضي الله عنها فإِنها تأخرت بعده بستة أشهر.
وفي بيان هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع البنات ما رواه الترمذي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا ودلًا وهديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله ” قالت: ” وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه”، وهذه القصة تحمل مغزى تربويًّا بليغًا في حسن التعامل مع البنات، وفي الصحيحين عن أبي قتادة الأنصاري قال: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها”.
لقد حث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإحسان إلى البنات، وجعل من يحسن إلى اثنتين أو ثلاث منهن رفيقه في الجنة، وكفى بذلك فضلًا وفخرًا وأجرًا، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ” وَضَمَّ أَصَابِعَهُ؛ رواه مسلم. وإحسان تربية البنات حجاب عن النار، فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كان له ثلاث بنات فصبَر عليهن وأطعمهنَّ، وسقاهنَّ وكساهنَّ من جدته، كنَّ له حجابًا من النار يوم القيامة”؛ رواه ابن ماجه وأحمد، وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَن كان له ثلاثُ بناتٍ يُؤدِّبُهنَّ ويرحَمُهنَّ ويكفُلُهنَّ، وجَبَت له الجنَّةُ البتةَ، قيل: يا رسولَ اللهِ، فإن كانتا اثنتينِ؟ قال: وإن كانتا اثنتين، قال: فرأى بعضُ القوم أن لو قال: واحدةً، لقال: واحدة”؛ رواه أحمد، فتربية البنات شرف للمسلم وأسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الهدي النبوي في التعامل مع البنات هو بداية لمنهج جديد وطي صفحة الجاهلية الأولى التي كان جل أناسها لا يأبهون بطلتها للحياة: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59]، قوم خسروا دينهم وأولادهم وعقولهم؛ قال سبحانه: ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 140].
لقد كان ميلادها في الإسلام فرحة كبرى وبشارة عظمى، فهي ريحانة الحاضر وأم المستقبل، وكتب أحد الأدباء يهنئ صديقًا له بمولودة: أهلًا بعطية النساء، وأم الدنيا، وجالبة الأصهار، والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتسابقون، ونجباء يتلاحقون.
البنات ألطف الذريات وهن الحفيات الوفيات والمؤنسات الغالية؛ يقول حطَّان بن المعلَّى:
لولا بنيات كزغب القطا
رددنَ مِن بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطولِ والعرضِ
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبَّتِ الريحُ على بعضهم
لامتنعتْ عيني عن الغمض
|
معاشر الآباء والأمهات يقول الله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]، فهناك فرق كبير بين تربية الأولاد وتربية البنات؛ بسبب الاختلافات الخلقية والنفسية، وهذا ما يجب أن يأخذه الوالدان بعين الاعتبار أثناء التعامل معهم، وإدراك طبيعة تكوين البنت والمشاعر التي تنتابها مع مراحل نموها المختلفة.
فإعداد الفتى عن الفتاة يختلف، فإذا قاربت على البلوغ، تُعَلَّم الأدب والحشمة والحياء، وتُلزَمَ بالحجاب وبقية الواجبات، وتتدرب على أعمال المنزل، وكل ما يساعدها لتكون زوجة ناجحة وأُمًّا مثالية.
وهناك عدد من الجوانب في بناء شخصية الفتاة يجب أن يحرص عليها الوالدان، ومن ذلك البناء الروحي للفتاة، فالروح أهم من الجسد، وهي محل العقيدة والقيم، وتربية الروح بتقوية الصلة بالله عز وجل في كل لحظة، وذلك بالعبادة والطاعة، وكلما توجهت الروح إلى ربها وخالقها، نمت وترعرعت، وإذا انحرفت عنه ذبلت وضعُفت: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].
معاشر الآباء والامهات، القواعد الشرعية تقتضي أمر الفتاة بالحجاب، وتدريبهن عليه إذا بلغت المحيض، وهكذا سائر الأوامر الشرعية والمناهي والتكاليف، ولكن التدريج معها قبل بلوغها المحيض يُسهِّل عليها التكاليف ويهوِّن عليها الطاعات إذا بلغت المحيض، ولا بد من التفريق في المضاجع بين الاولاد والبنات؛ قال صلى الله عليه وسلم: “مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عَشْر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع”؛ رواه أحمد وأبو داود.
وفي البناء الاجتماعي ينبغي أن تلقن الطفلة قواعد السلوك الاجتماعي، بتأديبها على الآداب الشرعية في المأكل والمشرب والملبس والتخاطب والزينة وما إلى ذلك.
وفي البناء الأخلاقي جاء الإسلام ليتم مكارم الأخلاق؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وقد كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فتربَّى الفتاة منذ نعومة أظافرها على الصدق والعفة والمروءة والستر، وتُخَلَّق البنات بخلق الحياء، فهو حارس أمين من الوقوع في الرذائل: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ﴾ [القصص: 25]، فحياتها وحركاتها يهذبها الحياء، وفي الحديث: “والحياء خير كله، ولا يأتي إلا بخير”.
وحُسن اختيار الصديقة مسألة لا مساومة فيها، فالصداقة لها تأثير بالغ في حياة الفتاة، فصديقات السوء كالشرر الملتهب، إذا وقع على شيء أحرقه، و”المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يخالل”.
ومما يُعين على تربية الفتاة التركيز على حب الله تعالى وحبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم، مع تنشئتها منذ الصغر على الدين والفضيلة، وتغذية ذلك بقصص أمهات المؤمنين وسير الصحابيات الماجدات، وفضليات نساء المسلمين.
التربية الصحيحة للفتاة تقتضي تعاون الأب والأم، والتفاهم بينهما؛ لتؤتي التربية أكلها، والأسرة السوية روابطها قوية يسودها الشعور بالطمأنينة والاستقرار، وتفكُّك الأسرة بالطلاق والشقاق، كل يهيم في واد، وهذا يولد جفوة تتراكم أضرارها فوق بعضها على واقع الفتاة، وقد ينكشف الغطاء بعد فوات الأوان عن سلوك غير حميد، والجو العائلي المضطرب يسمح بالاختراق أو الاقتراب مع شعور بالقلق والهمِّ.
إذا نشأت البنت في بيئة صالحة، فإننا بذلك نضمن بإذن الله بناء فتيات مؤمنات وبنات قانتات يكن مصدرًا للفضيلة والتقوى؛ قال تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34].
تحقق التربية أهدافها وتؤتي ثمارها حين تكون الأم قدوة لابنتها، مع سلوك حسن وسيرة حميدة، ومرافقة البنت لأمها في أعمال البيت تصقل شخصيتها، وتضيف إلى سيرتها دروسًا ناصعة.
جلسات الإقناع والحوارات الأسرية وغمر البيت بمشاعر فيَّاضة من الود والحب والاحترام، يبعث الدفء والأمان، ويعطي إجابات لأسئلة البنات الحائرة، ويحميهنَّ بحول الله من الذئاب البشرية ورفيقات السوء.
الكلمة الطيبة صدقة والرِّفق واللين في الأسلوب، وسيلة مهمة في التربية، وإذا قارنها قلب مفعم بالمحبة والود آتى أُكله في تسديد السلوك، ويهدي إلى الاقتناع والقبول.
الفراغ مشكلة كبرى في حياة الفتيات، وملء أوقاتهن بالنافع المفيد حصانة ووقاية، ومن ذلك حفظ القرآن وتلاوته وتفسيره، وممارسة الهوايات المفيدة.
تأخير زواج الفتاة يترتب عليه مفاسد اجتماعية ونفسية، وعضلها بمنعها من الزواج بكفئها لأغراض دنيوية جريمة في حق فتياتنا والمجتمع؛ قال تعالى: ﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾ [البقرة: 232]، وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا جاءكم مَن ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض”.
في تربية البنات ينبغي التوسط والاعتدال في استخدام وسائل التواصل والإنترنت، وأن يكون التعامل معها بحذرٍ وقدر، وأن يكون الأبناء في مأمن من قنوات التعارف ونشر الصور والأسرار، مع ضرورة درء خطر ودعوات أهل الفساد الذين يحاربون الدين والفضيلة، فالسلامة لا يعدلها شيء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا وبعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى.
عباد الله، صلاح البنين والبنات مهمة تؤرِّق المربين، وشغلهم الشاغل، خاصة مع مُدلهمات الفتن والانفتاح التقني، لكن صدق اللجوء إلى الله خير معين، فابتهال الأبوين وتضرُّعهما إلى الله أن يصلح أولادهم دأب الصالحين، ودعاء الوالدين للأبناء مستجاب في الأغلب؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
اللهم احفَظ شبابنا وشباب المسلمين وبناتنا وبنات المسلمين، واجعلهنَّ هاديات مهديات بالصحابيات مقتديات.