حِمَايَةُ الْفَضِيلَةِ ( خطبة )

حِمَايَةُ الْفَضِيلَةِ ([1])

الْحَمْدُ لِلَّهِ، الَّذِي أَمَرَ بِالْفَضِيلَةِ، وَنَهَى عَنِ الرَّذِيلَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ ربُهُ بِالأَخْلَاَقِ الْجَمِيلَةِ وَالْآدَابِ الرَّفيعَةِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الدِينِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾.

عِبَادَ اللهِ: الْأَخْلَاَقُ وَالْقَيِّمُ قُوَّةٌ لِلْأُمَمِ، وَصَوْنٌ لِلْمُجْتَمَعَاتِ، وَالْعِفَّةُ طُهْرٌ وَشَرَفٌ، وَالْحَيَاءُ مِنَ الْإيمَانِ، وَالْفُجُورُ مَأثْمٌ وَمَنْقَصٌ، وَالْفَوَاحِشُ خَارِمَاتٌ لِلْمُرُوءةِ، مُضْعِفَاتٌ لِلدِّينِ، وَاهِنَاتٌ لِلْأَخْلَاَقِ.

وَلَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ دَاعِيَاً لِكَلِّ فَضِيلَةٍ، مُحَذِّرَاً وَنَاهِيَاً عَنْ كَلِّ رَذِيلَةٍ، وَامْتَلَأَ كِتَابُ اللهِ بِالْآيَاتِ وَالسُّوَرِ، وَالنَّمَاذِجِ وَالْأَمْثَالِ الَّتِي تُرْسِي الْفَضِيلَةَ وَتُعْظِمُ شَأْنَهَا، وَتَنْهَى عَنِ الْفَاحِشَةِ، وَتَذُمُّ أَصْحَابَهَا، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ كَذَلِكَ بِجَمْعٍ مِنَ النُّصُوصِ، وَسَيلٍ مِنَ الْقَصَصِ وَالْأَمْثَالِ الَّتِي تُعَلِّمُ كَيْفَ تُبْنِي الْفَضَائِلُ، وَيُسَارَ فِي رَكْبِ الْقَيِّمِ، وَتُحَذَرُ مِنَ الْفَاحِشَةِ، وَتَرْسُمُ سُبُلُ الْخَلَّاصِ مِنْهَا، وَلَا غُرَابَةَ فِي هَذَا، فَالْإِسْلَامُ دَيِّنُ الْفِطْرَةِ، وَمُحَمَّدٌ ﷺ بُعِثَ لِيُتْمَمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاَقِ.

وَمَا كَانتِ الْقَيِّمُ غَائِبَةً عَنْ أَصْحَابِ الْفِطْرِ السَّلِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يُكَونُوا مُسْلِمَيْنَ، وَعِنْدَ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الْخَبِرُ الْيَقِينُ؛ فَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عَتَبَةَ، وَهِي حَديثَةُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ: «أَوْ تَزْنِي الْحُرَّةُ يَا رَسُولَ اللهِ؟».

قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمْ تَزِلْ أَشْرَافُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْتَنِبُونَ الْزِنَا وَيَذُمُّونَهُ، وَيُنْهُونَ عَنْهُ.

وَجَاءَ فِي وَصِيَّةِ دُرَيدُ بْنِ الصِمَّةِ: إِيَّاكُمْ وَفَضِيحَةَ النِّسَاءِ، فَإِنَّهَا عُقُوبَةُ غَدٍ، وَعَارُ الْأبَدِ، يَكَادُ صَاحِبُهَا يُعَاقَبُ فِي حُرْمَةِ بِمِثْلُهَا، وَلَا يُزَالُ عَارُهَا لَازِمَاً لَهُ مَا عَاشَ.

وَهَتْكُ الْأَعْرَاضِ مُخِلٌّ بِبِنَاءِ الْأُسَرِ، وَهَادِمٌ لِلْبُيُوتِ، مُنَكِّسٌ لِلرُّؤُوسِ، يَضَعُ الشُّرَفَاءَ، وَيَخْدِشُ كَرَامَةَ النُّبَلَاَءِ، إِنَّهَا فَضِيحَةٌ وَوَصْمَةُ عَارٍ خَلِيقٌ بِأهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَصْحَابِ الْمُرُوءةِ أَنْ يَتَرَفَّعُوا عَنْهَا.

إِنَّ الْأَعْرَاضَ إِذَا لَمْ تُصَنْ بِالْعَفَافِ وَالْحَصَانَةِ وَاحْتِرَامِ الْقُيُودِ الَّتِي شَرَعِهَا الْإِسْلَامُ فِي عَلَاَّقَةِ الْجِنْسَيْنِ؛ فَإِنَّهَا سَتُأْكُلُ بِلَا عِوَضٍ وَلَا أَثْمَانٍ، وَلَا يَنْفَعُ حِينَهَا بُكَاءٌ وَلَا نَدَمٌ.

وَلأجْلِ حِفِظِ الْأَعْرَاضِ وَحِمَايَةِ الْفَضَائِلِ شُرِعَ الْحِجَابُ الَّذِي هُوَ عِزُ المَرأَةِ، وَعُنْوَانُ عِفَّتِهَا وَحِشْمَتِهَا، وَمَظْهَرُ صَلَاَحِهَا، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾.

الْحِجَابُ طَهَّارَةٌ لِلْمُجْتَمَعِ وَزَكَاءٌ لِلنُّفُوسِ وَنُقَاءٌ لِلْقَلُوبِ: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾.

وَتُحْمَى الْفَضِيلَةُ بِغَرْسِ الْحَيَاءِ فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ مُنْذُ الصِّغَرِ؛ قَالَ ﷺ: «الْحَيَاءَ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرِ».

وَالتَّرْبِيَةُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاَقِ وَمَكَارِمِهَا مِنْ عِفَّةٍ وَغَيْرَةٍ وَشَهَامَةٍ وَمُرُوءَةٍ قَالَ ﷺ: «لَا أحَدَ أَغَيْرُ مِنَ اللهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظُهْرٍ مِنْهَا وَمَا بَطْنَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَإِنَّمَا الْأُمَمُ الْأَخْلَاَقُ مَا بَقِيَتْ**فَإِنْ هَمُ ذَهَبَتْ أَخْلَاَقُهُمْ ذَهَبُوا

وَقِيمُ الْبَيْتِ أَمينٌ وَمُؤْتَمَنٌ، وَرَاعٍ وَمُسْتَرعَىً، وَدَوْرَهُ مُهِمٌّ فِي التَّوْجِيهِ وَالرِّعَايَةِ، وَصَلَاحُ الْوَالِدِينِ صَلَاحٌ لِلْأُسْرَةِ: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾. وَالمُرَبِي الْمُسْلِمُ لَا يَغْفِلُ عَنْ رَعِيَّتِهِ، يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ مَعْصِيتِهِ بِالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ؛ قَالَ ﷺ: «فَالرَّجُلَ رَاعٍ فِي أهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».

مَنْ لِي بِتَرْبِيَةِ النِّسَاءِ فَإِنَّهَا ** فِي الشَّرْقِ عِلَّةُ ذَلِكَ الْإخْفَاقِ

الْأُمُّ مُدَرِّسَةٌ إذا أَعَدَدَتَهَا ** أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيِّبَ الْأَعْرَاقِ

وَالزَّوَاجُ حِصْنُ الْفَضِيلَةِ وَوِجَاءٌ مِنَ الرَّذِيلَةِ؛ قَالَ ﷺ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَتُحْمَى الْفَضِيلَةُ بِسَدِّ مَنَافِذِ الْفَاحِشَةِ وَأسْبَابِهَا وَأَعْظُمُهَا دُخُولُ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ، وَسَفَرُ الْمَرْأَةِ بِلَا مَحْرَمٍ، وَالخَلْوةُ بالأجنبيَّةِ، وَالتَّبَرُّجُ وَالسُّفُورُ، وَالْاِخْتِلَاطُ، مِمَّا يُنْتِجُ عَنْهُ مَخَاطِرُ وَبَلَايَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ.

وَلَقدْ حَذِرَ اللهُ مِنْ مَسَالِكِ أهْلِ الشُّبْهَاتِ وَالشَّهْوَاتِ: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾. وَجَاءُ خيلُ الشَّيطَانِ وَرَجِلُهُ، فَسَعو لتَدمِيرِ نِظَامِ الأُسرَةِ، وَهَدمِ القِيَمِ بِمَعَاولِ الإِلحَادِ وَالشَهوَانِيَّةِ، وَبَلَغُوا مِن الوَقَاحَةِ وَالسَّفَاهَةِ وَالدَّنَاءَةِ مَا لَم يَبلُغْهُ إِنسَانٌ وَلَا حَيَوَانٌ.

وَحَتَّى تُحْمَى الْفَضِيلَةُ فَلابُدَ مِنْ تَقْوِيَةِ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ، وَتَرْسِيخِ قِيمَةِ الْأَخْلَاَقِ، وَصَوْنِ الْأَعْرَاضِ، فِهِي الشَّرَفُ وَالْكَرَمُ، وَالْمَجْدُ وَالسُّؤْدُدُ، وَمَا سَوَّاهَا مأثْمٌ وَمُغْرَمٌ، وَعَيْبٌ وَمُنْقِصَةٌ، وَلَابِدَ أَنَّ تَسَمَعَ الْمَرْأَةُ أَنَّ عَرْضَهَا شَرَفَهَا، وَأَنَّ الذِّئَابَ إِذَا افْتَرَسَتْهَا تَرَكَتْ بِصِمَّاتِ الْعَارِ عَلَيْهَا، وَعَلَى أُسْرَتِهَا، وَبَقِيَتْ فَضِيحَةُ الدَّهْرِ تَلُوكُهَا الْأَلْسَنُ؟! وَلابَدَّ أنْ يُقَالَ لِلرَّجُلِ الْهَاتِكِ لِلْأَعْرَاضِ، أَتَرْضَى الْفَضِيحَةَ وَالعَارَ لِأُمِّكَ وَأُخَتِكَ وَابْنَتِكَ، إِنْ كَنَتَ لَا تَرْضَّاهَا لِنَفْسِكَ فَكَذَلِكَ النَّاسُ!.

فَاِتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- وَكُونُوا عَلَى مُسْتَوَى إِسْلَامِكُم فِي مَتَانَةِ الْخُلْقِ، وَحِرَاسَةِ الْفَضِيلَةِ وَمُحَارَبَةِ الرَّذِيلَةِ، ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ.

اللَّهُمَّ اِحْفَظْ الْمُسْلِمَيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَتَرَبَّصِ الْمُتَرَبِّصَيْنَ، يَا ذَا الْجَلَاَلِ وَالْإكْرَامِ.

أَقولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ، وَادْعُوهُ يَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيمُ.

الخُطبَةُ الثَّانيةُ:

الْحَمْدُ للّهِ وَكَفَى، وَسَلَاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، وَبَعدُ؛ فَاِتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسَكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَتَنَبَّهُوا وَتَأَمَّلُوا وَاحْرِسُوا اعْرَاضَكُم وَاِحْمُوا بُيْضَتَكُمْ، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَسْرَكُمْ أمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِكُمْ، اِسْتَرْعَاكُمِ اللهُ عَلَى مَنْ فِيهَا، وَاللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اِسْتَرْعَى: أَحَفِظَ أَمْ ضِيَعَ؟ فِيَا خَيْبَةَ مَنْ ضِيَعِ الْأمَانَةِ، وَأَسَاءَ التَّرْبِيَةُ!

هَذَا، وَصَلُوا وَسَلَّمُوا عَلَى نَبِيّكُمْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ؛ امتِثَالاً لِأَمَرِ رَّبِّكُمْ -جَلَّ فِي عُلاهُ-: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، الَّلهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ الَّلهُمَّ عن خُلفائِهِ الراشِدينَ أبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثمانَ، وَعَليٍّ، وَعَنْ سَائرِ الصَحَابةِ أجْمَعِينَ، وَعنَّا مَعهُم بجُودِكَ وَكرَمِك يَا أكرَمَ الأكرَمِينَ.

اللَّهُمُّ أعزَّ الإسْلامَ وَالْمُسْلِمَيْنَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطمئنًا وَسائرَ بلادِ المُسلمينَ، وَأعذْنَا مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهِرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللَّهُمُّ وَفقْ خَادَمَ الحَرَمَينَ الشَرِيفَينَ، وَوَليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وَترضَى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

عِبَادَ اللَّهِ: اذكُرُوْا اللَّهَ ذِكرَاً كَثِيرَاً، وَسَبِّحُوهُ بُكرَةً وَأَصِيلاً، وَآخِرُ دَعوَانَا أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

……………………………………………………………

•• | ‏لمتابعة الخطب على: (قناة التليجرام) /  https://t.me/alsaberm


(1) للشيخ محمد السبر، قناة التلغرام https://t.me/alsaberm

تحميل المرفقات

إضغط هنا