خطبة: الإيمان بالجنة

خطبة: الإيمان بالجنة

للشيخ محمد السبر بجامع الأميرة موضي السديري بالرياض

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله – عباد الله – حق تقاته، ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

عباد الله، الجنة هي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، وما حدثنا الله به عنها، وما أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم من نعيم الجنة عظيمٌ لا تدركه العقول ولا تصل إلى كنهه الأفكار، واستمع إلى قول ربنا تبارك وتعالى في الحديث القدسي: “أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”، ثم قال صلى الله عليه وسلم: “اقرؤوا إن شئتم: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم مِن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) رواه البخاري ومسلم.

 

إنه نعيم وملك يحير العقل ويذهله، وعظمة ذلك النعيم يعجز العقل عن إدراكها واستيعابها، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾ [الإنسان: 20].

 

وتظهر عظمة النعيم بمقارنته بمتاع الدنيا، فإن متاع الدنيا بجانب نعيم الآخرة تافه حقير، لا يساوي شيئاً، ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها”، ولذا كان دخول الجنة والنجاة من النار في حكم الله وتقديره هو الفلاح العظيم، والفوز الكبير، قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال سبحانه: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72]، وقال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [النساء: 13].

 

بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقَّون، وذلك بأن يقتص لبعضهم من بعض إذا كانت بينهم مظالم في الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهاراً أبراراً، ليس لأحد عند الآخر مظلمة، ولا يطلب بعضهم بعضاً بشيء. روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا”، ورسولنا صلى الله عليه وسلم هو أول من يستفتح الجنة بعد أن يأبى أبو البشر آدم وأولوا العزم من الرسل التعرض لهذه المهمة.

 

ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين عندما يطول عليهم الموقف في يوم الجزاء يطلبون من الأنبياء أن يستفتحوا لهم باب الجنة، فكلهم يمتنع ويتأبى، ويقول: لست لها، حتى يبلغ الأمر نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فيشفع في ذلك، فيُشفّع، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون، حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لست بصاحب ذلك” وذكر فيه تدافع الأنبياء لها، حتى يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيؤذن لهم.

 

وأول زمرة تدخل من هذه الأمة الجنة هي القمم الشامخة في الإيمان والتقى والعمل الصالح والاستقامة على الدين الحق، يدخلون الجنة صفاً واحداً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، صورهم على صورة القمر ليلة البدر.

 

وأول زمرة يدخلون الجنة جاء وصفهم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتْفِلُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ”.

 

ووفي لفظ للبخاري: “.. ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً”.

 

وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألف لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر”.

 

وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم السبعين ألفاً الأوائل وبيَّن علاماتهم، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” عُرضت عليّ الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير. قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يستَرْقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: اللهم اجعله منهم. ثم قام إليه رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة”.

 

ولعل هؤلاء هم الذين سماهم الله تبارك وتعالى بالمقربين، وهم السابقون، ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [الواقعة: 10، 11]، وهؤلاء ثلة من الأولين وقليل من الآخرين: ﴿ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ﴾ [الواقعة: 13، 14].

 

وأول من يقرع باب الجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخلها من الأمم أمته، قال عليه الصلاة والسلام: ” آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقولُ: محمد فيقولُ: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك ” أخرجه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: ” أنا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة” رواه مسلم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” نحن السابقون الأولون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم” أي: لم يسبقونا إلا بهذا القدر.

 

وفي الصحيحين عنه مرفوعاً: “نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة, بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا, وأوتيناه من بعدهم”.

 

والفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً ” رواه مسلم. وروى أحمد والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة”.

 

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم في موضع آخر أن هؤلاء لم يكن عندهم شيء يحاسبون عليه، هذا مع جهادهم وفضلهم، ففي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار”. وأصحاب الجد هم الأغنياء من المسلمين.

 

والحاصل – عباد الله – أن هذه الأمة المشرفة هي أسبق الأمم خروجاً من الأرض، وأسبقها إلى أعلى مكان في الموقف, وأسبقها إلى ظل العرش، وأسبقها إلى الفصل والقضاء بينهم، وإلى الجواز على الصراط، وإلى دخول الجنة, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد، فاتقوا الله عباد حق التقوى…

عباد الله، إن أهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الجنة حق لا شك فيها، وأنها دار أولياء الله المتقين؛ قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]. فالجنة معدة ومخلوقة الآن، قال تعالى: ﴿ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ﴾ [النجم: 14، 15]. وقال صلى الله عليه وسلم: ” من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ورُوح منه، والجنة حق، والنار حق – أدخَله الله الجنة على ما كان من عمل” رواه البخاري ومسلم.

 

والجنة باقية بإبقاء الله لها، فلا تفنى ولا تبيد؛ قال تعالى: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، وثبت في الحديث الذي رواه مسلم: “ينادي منادٍ: يا أهل الجنة، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وأن تَشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا، وأن تحيَوْا فلا تموتوا أبدًا”.

 

وبعدما عرف المؤمن ما أعده الله للمؤمنين المتقين من الكرامة والنعيم، فإنه يجب عليه المسارعة بالطاعات والقربات لينال الدرجات العلى، قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ﴾ [طه: 75].

 

هذا وصلوا رحمكم الله على الرحمة المهداة والنعمة المسداة محمد بن عبدالله…