رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة في الإسلام ( خطبة)

عباد الله، لقد أوصى الله تبارك وتعالى في عدد من الآيات القرآنية الكريمة بضرورة الإحسان إلى الناس بجميع فئاتهم، ومنهم ذوو الاحتياجات الخاصة؛ وهم: مَن ابتُلوا بقصورٍ أو خللٍ مستديم حركي أو حسي أو عقلي؛ مثل: المشلول، والأعمى، والأصم، والأبكم، والمجنون، والمصاب بمرض التوحد، والمصاب بمتلازمة داون، ونحو ذلك.

هذه الفئة العزيزة الغالية جزء لا يتجزأ من المجتمع المسلم له حقوقه وواجباته، ولهم قَدْرهم واحترامهم؛ ذلك أن الإنسان قد يُقدِّر الله عليه الابتلاء في جسده، أو تطرأ عليه حوادث ومصائب قد تؤثر على حياته؛ لذا فهم يحتاجون إلى عناية خاصة تتناسب مع متطلباتهم واحتياجاتهم.

ومن هنا كانت شريعة الإسلام شريعة شاملة متكاملة تُعنى بكل الأمور والوقائع، فلم يُترَك مجالٌ ولا حالة إلا وكان للشريعة بيان ورأي فيه، فمن عناية الإسلام بهم أن كلَّفهم بما يستطيعون فعله من الأحكام الواجب فعلها حسب قدرتهم؛ فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [النور: 611]، فرخَّص الله تعالى لهذه  الفئة في البقاء وعدم الذهاب للقتال مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكونهم معذورين إما بالعمى أو بالعَرَجِ أو بالمرض ونحو ذلك، فالتكاليف الشرعية جاءت على حسب الوُسعِ والطاقة منسجمة مع إمكانات الناس وقدراتهم، فإذا ما ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير؛ قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 2866].

وتجلت رحمة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بذوي الاحتياجات الخاصة عندما تعامل معهم بروح المحبة والتقدير، والتشجيع والتثبيت على تحمل البلاء؛ ليصنع الإرادة في نفوسهم، ويبنيَ العزم في وجدانهم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أمِّ مكتوم على المدينة مرتين، يصلي بهم وهو أعمى))، وكان يؤذن بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أنس رضي الله عنه: ((أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلانٍ، انظري أي السِّكَكِ شئتِ، حتى أقضيَ لكِ حاجتكِ، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرَغت من حاجتها))؛ [رواه مسلم].

هذا هو المنهج النبوي السمح في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة: اهتمام ورعاية ورحمة، وتكريم وتحفيز وثقة.

ومَضَتْ أمة الإسلام على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في وجوب رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، والعمل على قضاء وسد احتياجاتهم، فأصدر الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز قرارًا إلى عمال الولايات أن ارفعوا إليَّ كل أعمى في الديوان، أو مُقْعَد، أو مَن به فالج، أو من به زَمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فرفعوا إليه، وأمر لكل كفيف بمرافقٍ يقوده ويرعاه، وأمر لكل اثنين من الزَّمْنى بخادمٍ يخدمهما ويرعاهما.

وعلى نفس الدرب سار الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، فأنشأ دارًا لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة عام 88 ه فيها الأطباء والخُدَّام، وأجرى لذوي الاحتياجات الخاصة النفقات، وقال لهم: “لا تسألوا الناس”.

وفي العصر المملوكي أنشأ السلطان قلاوون مستشفًى ما زالت بقاياه موجودة حتى الآن وتحمل اسمه، كان المريض يلقى الرعاية والاهتمام، ويُعطى بعد خروجه بعض المال؛ حتى لا يضطر للعمل فترة نقاهته.

في ظل الإسلام وصل ذوو الاحتياجات الخاصة إلى أعلى المراتب؛ فكان منهم العلماء والفقهاء والمُفتون، والدعاة والمحدثون، والمفكرون المُبرَّزون، بل صارت الإعاقة عَلمًا يُعرف بها أفذاذ ومبرزون، فالمتأمل في تاريخنا الإسلامي المجيد وإلى الآن يجد الكثير من العلماء الذين أصبحت إعاقتهم أو عاهتهم عَلمًا يدل عليهم؛ ومنهم: الأحول والأخفش والأصم والأعرج والأعمش.

لقد احتل ذوو الاحتياجات الخاصة في الحياة الإسلامية مكانتهم اللائقة؛ فها هو الصحابي الجليل ابن أم مكتوم الذي أنزل الله في شأنه قرآناً يُتلى في سورة: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾ [عبس: 1، 22]، كما شهد  هذا الصحابي الجليل فتح القادسية وقُتل فيها شهيدًا وهو الرجل الأعمى، لم يُنقِص فَقْدُ البصر من مكانته شيئًا، ويكفيه فخرًا أنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا صحابي آخر من علماء الصحابة هو معاذ بن جبل رضي الله عنه كان أعرج، فلم يمنعه العرج من تبوء المكانة التي يستحقها في الحياة السياسية والاجتماعية الإسلامية؛ فيختاره الرسول صلى الله عليه وسلم من بين المسلمين ويرسله إلى اليمن عاملًا له عليها، وعمر الفاروق يقول عنه: “من أراد الفقه، فليأتِ معاذ بن جبل”؛ [رواه الحاكم]، وهو من أهل القرآن؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((خذوا القرآن من أربعةٍ: من عبدالله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبيِّ بن كعب))؛ [متفق عليه].

والصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه حبر الأمة وتُرجمان القرآن أُصيب بالعمى في أواخر حياته؛ يقول في وصف حاله:

إنْ يأخذِ الله من عينيَّ نورهما ففي لساني وسمعي منهما نورُ قلبي ذكيٌّ وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ وفي فمي صارم كالسيف مأثورُ 

وقد كان التابعي الجليل عطاء بن أبي رباح أسودَ، مُفلْفَل الشعر، أعور العين، أفطس الأنف، أشلَّ اليد، أعرج القدم، لكنه كان عالمًا وإمامًا، يرجع إليه الناس في الفتوى، وكان يُنادى في موسم الحج: لا يُفتِي الناس إلا عطاء.

والإمام محمد بن عيسى الترمذي صاحب السنن، من أشهر علماء الحديث وكان كفيف البصر، وغيرهم كثير ممن كانت الإعاقة سببًا لنبوغهم وتميزهم؛ فلا تجعل الإعاقة سببًا للقعود والتنصل من المسؤولية والإسهام في مجالات الحياة.

وعلى الإنسان دائمًا أن يصبر في كل ابتلاء يحصُلُ له، والرضا بقضاء الله تعالى، واستشعار الأجر والثواب الذي سيناله بصبره وعدم تسخطه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة))؛ [رواه البخاري]، حبيبتيه: يريد عينيه.

وروى البخاري في صحيحه بسنده عن عطاء بن أبي رباح قال: ((قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإني أتكشَّف؛ فادعُ الله لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيَك، فقالت: أصبرُ، فقالت: إني أتكشف؛ فادعُ الله ألَّا أتكشف، فدعا لها))؛ أي: تنكشف ثيابها عنها في حالة الصرع، والمراد: أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر؛ [فتح الباري، ج: 10، ص: 115].

فهذا حافز لمن ابتُليَ بشيء أن يصبرَ، وألَّا تخذله هذه المعوقات عن العلم والإيمان بالله والعمل الصالح والفكر والإبداع.

بارك الله لي ولكم في القرآن …

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسمِع الله لمن دعا؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله حق التقوى.

عباد الله، ذوو الاحتياجات الخاصة لهم حق على مجتمعهم في نيل الاحترام، وذلك بدمجهم وإشراكهم في الأعمال التي من الممكن أن يشاركوا فيها، وحضورهم في المناسبات العامة وأعمال المسؤولية الاجتماعية.

وكذلك حفظ حقوقهم الخاصة فتحفظ أموالهم وممتلكاتهم، ويُمنع التصرف فيها دون وجه حقٍّ، وعدم استغلال تلك الفئة بسبب ضعف معيَّن فيهم.

ومن حقوقهم: احترام الأماكن المخصصة لهم في الطرق والأسواق والدوائر الحكومية، وعدم الوقوف بها.

ومن الواجب حفظ كرامتهم ومشاعرهم، فتُحرم السخرية منهم، أو نبزهم بألقاب تنال من كرامتهم، أو الترفع عنهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 111]، وفي الحديث: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقِرَ أخاه المسلم))؛ [رواه مسلم]، والكرامة الحقيقية التي يكتسبها الإنسان إنما هي بتقواه لا بصورته، ولا بجسمه، ولا بجماله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 133]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))؛ [رواه مسلم].

وعلى الإنسان أن يحمد الله تعالى على النعم التي وهبه الله إياها؛ فإن الذي وهب العبد وأعطاه تلك النعم قادر على أن يأخذها منه في أي لحظة فهو الرازق القادر؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ [النحل: 533].