خطبة: وما بكم من نعمة فمن الله

الحمد لله،الذي خلَق فسوَّى، وقدَّر فهدى، أحمدُه سبحانه وأشكره على نِعَمِه التي لا تُحصى، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، العليُّ الأعلى، وأشهد أنَّ نبِيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي لا ينطق عن الهوى، إِنْ هو إلا وحيٌ يُوحَى، صلى الله عليه وعلى آلِه وأزواجه وصحبِه، السائرينَ على دربِ الفَلَاح والهدى.

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

عباد الله، إن نِعَم اللهِ الظاهرة والباطنةَ على عباده كثيرةٌ لا تُحصى، وكثرةٌ كاثرةٌ لا تُستقصى، قال تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 34]، والله المنفرد بالعطاء والإحسان؛ قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، أخبر سبحانه أنه مالك النفع والضر، وأن ما بالعبد مِن رزقٍ ونعمة وعافية ونصر، فمن فضله عليه وإحسانه إليه (تفسير ابن كثير)، فكلُّ خيرٍ يحوزه العباد هو إنعامٌ من الله عليهم، مِنْ هداية وإيمانٍ، وعلم ورزق وذريةٍ، بل حصولُ المنافعِ ودفعُ المضارِّ، كل من عند الله.

والتأمُّل في نفسك وفيمن حولك يقودك إلى استشعار نِعَم الله عليك: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾ [عبس: 24]، ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق: 5]، ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة.

وإذا امتلأ قلبُ العبدِ بالإيمان تحقَّقَت له نعمةُ شكرِ النعمِ، وصَلُحَت تصرفاتُه، وزكَت أخلاقُه: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحجرات: 7، 8].

ومن مقتضياتِ تذكُّر نِعَم الله الاعترافُ بها، ونسبتُها للواهب المنعم وهو الله تعالى، والثناء بها عليه: )قال هذا من فضل ربي)، وقال صلى الله عليه وسلم: “مُطرنا بفضل الله ورحمته“.

الاعترافُ بالنعم مفتاحُ كلِّ خيرٍ، ويجعلُ لسانَ المسلم يلهَج على مدار يومه وليلته بالحمد لله ربِّ العالمينَ، ويستعمل هذه النعمَ في تحقيق مرضاة الله تعالى، فهذا نبيُّ الله سليمان عليه السلام يدعو ربَّه: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19]، وهذا كليم الله موسى عليه السلام يعاهِدُ ربَّه: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِي ﴾ [القصص: 17].

وإذا أقرَّ المسلمُ بنعم اللهِ أظهَر هذه النعمَ، تعظيمًا للمنعِم، شاكرًا حامدًا لا مُفاخِرًا ولا متكَبِّرًا،) ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11].

وأمَّا مَنِ اغتَرَّ بنفسه وأُعجب بما وهَبَه اللهُ مِنَ النعمِ، فنَسَبَها إلى نفسه، فإن النعمة في حقه نقمة، والخير شر، والعافية بلاء، ففرعون قال: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، وكذلك قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ﴾ [القصص: 78].

وأعظمُ الشكرِ المبادَرةُ إلى العبادة:) ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 66]، والعبد مهما اجتهد، فلن يحيط أداءَ حقِّ شكرِ النعمِ، وحسبُه السعيُ إلى بلوغ مرضاة الله.

ومن أسباب دوامِ النعم دعاء الله ليُبقِيَها، قال صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أعوذُ بك من زوال نعمَتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك“؛ رواه مسلم.

ومن شُكرِ النعم حمدُ الله عليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: “إن اللهَ ليرضَى عن العبد أن يأكلَ الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمدَه عليها“؛ رواه مسلم، كان صلى الله عليه وسلم إذا أوَى إلى فراشه يحمدُ ربَّه على النِّعَم، ويتذكَّرُ من حُرِمَها، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أوَى إلى فراشِه قال: “الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافِيَ له ولا مُؤوِي“؛ رواه مسلم، وكان يقول في صباحه ومسائه: “اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك، فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشُّكرُ“؛ رواه أبو داود.

والقصور والتقصير في باب النعم عمى في البصيرة ووسوسة من الشيطان: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17].

ويغفُل المسلمُ عن إدراك نِعَمِ اللهِ، ويزدريها حين ينظر إلى ما في أيدي الآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى مَنْ هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَنْ هو فوقَكم، فهو أجدرُ ألَّا تَزْدَرُوا نعمةَ اللهِ عليكم“؛ متفق عليه.

وما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلا زالَت عنه نعمةٌ بحسب ذلك الذنبِ، قال ابنُ القيم: “المعاصِي نارُ النعَم تأكلُها كما تأكُلُ النارُ الحَطَبَ”.

إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ ***فَرَبُّ الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم.

أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله،جلَّ في علاه، أحمده سبحانه وأشكره، على ما أنعَم به علينا وأسداه، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُه ورسولُه ومجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وَمَنْ والاه، أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من استهلاكِ نعمِ اللهِ في مساخطه، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44].

وإن من سوء الأدب مع الله الانغماس في النعيم ونسيان المنعِم، والاستغراق في الفَرَح، قال: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 211].

اللهم آمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق ولي أمرنا ونائبه لكل خير، اللهم اصرِف عنا شر ما قضيت، وأعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اشفِ مرضانا وارحَم موتانا وموتى المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.