خُطْبَةُ العَجُ وَالثَجُ فِي فَضَائِلُ الحَجِ
خُطْبَةُ العَجُ وَالثَجُ فِي فَضَائِلُ الحَجِ ([1])
الْحَمْدُ للهِ، الذي أمَرَ خَليلَهُ ببناءِ البيتِ الحَرَامِ، أحْمَدُه سُبْحَانَهُ وأشكرُهُ عَلى نِعَمهِ وخيرَاتِهِ الجِسَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الملكُ العَّلامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، أفضَلُ مَنْ صَلى وصَامَ وطَافَ بالبيتِ الحَرَامِ، صَلَّى اللهً عليهِ وعِلى آلِهِ وأصحَابِهِ البرَرَةِ الكِرامِ، والأئِمةِ الأعْلامِ، وسَلَّمَ تَسْليمًا كَثِيرَاً.
أمَّا بَعدُ: فاتَّقوا اللَّهَ -مَعَاشِرَ المُؤمِنينَ-، فإنَّهَا خَيرُ زادٍ ليومِ المعادِ ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾، وفِي هَذِهِ الأيامِ تَتْجِهُ قلوبُ المُسلمينَ، وتتحركُ أبدانُهُم وتتأججُ أشواقُهُمُ إلى بيتِ اللهِ الحَرَامِ، والمشَاعِرِ المُقدَسةِ؛ حيثُ أدَاءُ رُكنٍ مِنْ أركَانِ الإسلامِ، وأحدِ مبانيِهِ العِظَامِ، قالَ تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾. وَهوَ مِنْ أفْضَلِ الطَاعَاتِ، وأجَلَّ القُربَاتِ التِي تُرضِي رَبَ الأرضِ والسمَاواتِ، وهوَ عِبادةُ العُمرِ، وخِتَامُ الأمْرِ، وتمَامُ الإسلامِ؛ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». مُتفقٌ عَليهِ.
الحَجُ فريضَةٌ أوْجَبَهَا اللهُ تَعَالى عَلى المُكلفِ المُستَطِيعِ مَرَةً في العُمرِ، فمَا زَادَ فَهوَ تَطوُعٌ، قالَ أبُو هُريرَةَ -رَضِي اللهُ عَنهُ-: «خَطبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فقال: «أيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللهَ قدْ فرضَ عَليكُمُ الحَجَّ فحُجُّوا»، فقالَ رَجلٌ: أكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فسكَتَ حتَى قَالهَا ثلاثًا. فقالَ ﷺ: «لو قلتُ: نَعَم، لوجَبَتْ ولمَا استَطعْتُم». رَوَاهُ مُسلمٌ.
فالحَجُ فَرِيضَةٌ، ثابِتةٌ بِالكِتَابِ والسُنَّةِ وإجمَاعِ الأمّةِ إجمَاعَاً قَطعِياً، فمَنْ جَحَدَهَا فقدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهَا تهَاونًا فهوَ عَلى خَطَرٍ.
وهيَ شَعِيرَةٌ شَرعَهَا اللهُ لإقامَةِ ذِكرِهِ وتوحيدِهِ، وفيها مِنَ المَنافِعِ والحِكمِ الدِينيةِ والدُنيويةِ، مَا لا يَخفَى عَلى ذِي بَصِيرَةٍ، ﴿لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾.
وَقدْ رَتبَ الشَارِعُ الحَكِيمُ عَلى أداءِ هذِهِ العِبادَةِ الثوابَ الجَزِيلَ والأجرَ العَظِيمَ؛ مِمَا يشحَذُ هِمَةَ المُسلمِ وعَزِيمَتَهُ، ليُقْبِلَ عَلى الحَجِ راجيًا ثوابَ اللهِ ومغفرَتَهُ، ومَا أعْدهُ لحُجَاجِ بيتِهِ المُحَرمِ مِنْ الثوابِ وحُسنِ الجَزَاءِ، ولذَا جَاءَتِ النَّصُوصُ المُتكَاثِرَةُ فِي فَضَائِلِ الحَجِ.
فهوَ مِنْ أفْضَلِ أعْمَالِ البِرِ؛ فَقدْ سُئلَ النبيُ ﷺ أيُ العَمَلِ أفْضَلُ؟ فقالَ:«إيمَانٌ بِاللهِ ورَسُولِهِ، قِيلَ: ثُّمَ مَاذَا؟ قَالَ: الجِهَادُ فِي سبيلِ اللهِ، قِيلَ: ثمَ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌ مَبْرُورُ».مُتَفَقٌ عَليهِ.
والحَجُ المبرورُ هوَ الذِي وُفِّيتْ أحْكَامُهُ، ولمْ يُخَالِطُهُ شَيءٌ مِنَ الإثمِ، ولا رَيَاءَ فيهِ ولا سُمْعَةَ، ولا رَفثَ فيِهِ ولا فُسُوقَ، وكَانَ بمالٍ حَلالٍ. قَالَ بعضُ السَلَفِ:” نظرتُ في أعْمَالِ البِرِ، فإذَا الصَلاةُ تُجهدُ البَدنَ دُونَ المَالِ، وَالصِيَامُ كذلكَ، وَالحَجُ يُجهِدُهُمَا فرأيتُهُ أفْضَلَ”.
والحَجُ المبرُورُ سببٌ لغُفرانِ الذُنوبِ، ومُغتَسلٌ مِنْ أدْرَانِ الخَطَايَا؛ قَالَ ﷺ: «الحَجُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وقَالَ ﷺ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كيَومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». مُتَفَقٌ عَليهِ.
وهوَ عِبَادَةٌ ثوابُهَا جَنَّةُ النَّعِيمِ، قَالَ ﷺ: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ». مُتَفَقٌ عَليهِ.
والحَجُ جِهَادٌ؛ ففيهِ مَشقةُ البَدنِ، وفيِهِ بَذلُ المَالِ فِي سبيلِ اللهِ، وقدْ شرَعَ اللهُ الحَجَ جِهَادًا لكُلِ ضَعِيفٍ؛ قَالتْ عَائشةَ -رَضِي اللهُ عنهَا-:« يَا رَسولَ اللَّهِ، نَرَى الجِهَادَ أفْضَلَ العَمَلِ، أفلا نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لَا، لَكِنَّ أفْضَلَ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ». رَوَاهُ البُخَارِيُ، وكَانَ عُمرُ-رَضِي اللهُ عنهُ- يقولُ: “شدُّوا الرِّحَالَ فِي الحَجِ فإنَّهُ أحْدُ الجِهادينِ”.
وسُئلَ النبيُ ﷺ أيُّ الحَجِّ أفضلُ؟ قالَ: «العَجُّ والثَجُّ». رَوَاهُ البُخَارِيُ، والعَجُ: رفعُ الصَوتِ بالتلبِيَةِ، والثَجُ: إراقةُ دِمَاءِ الهَدي.
هذَا معَ مُضاعَفَةِ الحَسَنَاتِ ورِفعَةِ الدَرَجَاتِ، صَحَ عنْهُ ﷺ أنَّهُ قَالَ: «صلاةٌ في المسجِدِ الحَرَامِ أفْضَلُ مِنْ مائةِ ألفِ صَلاةٍ فيمَا سِواهُ»، أيْ: صَلاةُ أربعٍ وخمسِينَ سنةً، فهلْ يُلامُ في هَوَى الحرَمِ بَعْدَ ذَاكَ أحدٌ؟!
نَاهِيكُمُ عنْ مَواقِفِ الرّحمَةَ ومُبَاهَاةِ الرَبِ بأهلِ الموقِفِ فِي عَرفَاتِ، والازدِلافِ عِندَ المَشْعَرِ الحَرامِ، والتقلّبِ فِي فجَاج مِنى، والطوافِ بالبيتِ وبينَ الصفَا والمروةِ، ورَمي الجِمَارِ، وكُلُّ ذلكَ مِنْ مَوَاطِنِ الرّحمَةِ وإجَابَةِ الدعواتِ.
مَنْ نالَ مِنْ عَرفَاتِ نَظرةَ سَاعَةٍ * نَالَ السرورَ ونَالَ كُلَ مُرادِ
فاتقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وسَارِعُوا إلى هذِهِ الخيراتِ، ولا تدَعُنَّ شيئًا يحولُ بينكُم وبينهَا، ولا يُقْعِدنَّكُم الشيطَانُ، ولا يَأخُذَنَّكُم التسويفُ عنْ نِدَاءِ رَبِكُم، وبَادرُوا إلى أدَاءِ فَرضِكم قبلَ الفَوَاتِ.
اللهُمَ وفقنَا لطَاعتِكَ، وبُلوغِ بيتكَ الحَرامِ، والقِيامِ بفرَائِضِكَ.
أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، واسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم ولسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ وخطِيئةٍ، فَاستغفِرُوُهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَحِيمُ.
الخُطبَةُ الثَّانيةُ:
الحمْدُ للَّهِ وكَفَى، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الذينَ اصْطَفى، وَبَعدُ؛ فاتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التقوَى، وعَظِمُوا المَشَاعرَ، باتباعِ سُنَّةَ نبيكِم ﷺ؛ فقدْ كَانَ يقولُ للناسِ فِي حَجْةِ الوَدَاعِ: «لِتَأْخُذُوا عَني مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِهِ». رَوُاهُ مُسلِمٌ.
وخُذُوا بتعليماتِ الجِهاتِ المَعنيةِ في تصَاريحِ الحَجِ وتَطْعِيمَاتِهِ وسائرِ إجراءاتِهِ، ففِي ذلكَ انتظامُ أمورِ الحُجَاجِ وسلامَتِهم، بلْ هَوَ ممَا يثابُ المَرءُ عَليهِ؛ لأنَّهُ تَعاونٌ عَلى البِرِ والتقوَى.
اللهُمَ سَلِّمِ الحُجَاجَ والمعتَمرينَ، واحْفظهُم، وأرِهِم منَاسِكَهُم، ورُدَهُم سَالِمينَ غَانِمينَ، بِالثَوابِ مَوفُورِينَ، يَارَبَ العَالمينَ.
اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمينَ، واحْمِ حَوزَةَ الدِينَ، واجعلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرمينَ الشَريفينِ، ووليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.
اللهُمَّ أعْذنَا مِنَ الشرورِ والفتنِ، مَا ظَهَرَ مِنهَا ومَا
بَطنَ.
(1) للشيخ محمد السبر، قناة التلغرام https://t.me/alsaberm