فراغ الصيف وزاد المسافر (خطبة)
فراغ الصيف وزاد المسافر
الحمد لله، عالم السر والنجوى، أحمده سبحانه وأشكره على نعمة التي تترى وأشهد ألا إله وحده لا شريك خلق الأرض والسماوات العلى، وأشهد أن محمدا عبده المجتبى ورسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه في الآخرة والأولى.
عباد الله، من نعم الله تعالى على عباده تقلُّبُ الليل والنهار، وتغيرُ الفصول صيفًا وخريفًا، وشتاء وربيعًا لينعم العباد بخيرات الفصول المختلفة، وهذا التقلب من آيات الله تعالى العظيمة، الدالة على كمال حكمته وتدبيره لكونه ومخلوقاته، كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 6].
وكعادة الصيف الحار أنه يطل بخير الثمار، ويهيئ النفوس لطيب الأسفار، ويشعرها بفراغ الأوقات، ولكل إنسان منهج في التعامل معه؛ فمن الناس من يجعله موسمًا لتدارك ما فاته من عمل في تزاحم الأوقات، وهذا هو الحريص على عمره الذي هو رأسماله، فلا يضيِّعه فيما لا يعود عليه نفعه، ومنهم من يضيفه إلى ما ضيَّع من ساعات عمره، في غيه ولهوه، وهذا هو الذي سيندم على ذلك كثيرًا.
غير أن صغارنا، الذين لا يميزون ما ينفعهم مما يضرهم، هم أمانة في أعناقنا، فمن استشعر هذه المسؤولية جعل صيف صغاره وأبنائه موسمًا لنفعهم، وتنمية مهاراتهم، فإنهم قد فرغوا من عناء التحصيل الدراسي، لينتقلوا بعد صيفهم إلى مراحل أخرى من ميادين العمل والبناء.
إن الصيف فرصة من فرص العمر للشباب والنشء لاستغلاله في النشاط المعرفي والاجتماعي، والترويح المباح، وذلك بتوجيههم نحو البرامج النافعة، التي تنمي الفكر كحفظ القرآن الكريم، وتجويده، ومراجعته، والنظر في الأحاديث والسيرة النبوية، والقراءة النافعة، فهي كفيلة بأن تنضج عقولهم، فمن المهم توفير وسائل القراءة المفيدة، مع الترغيب والتشجيع، وعندها سيرى المرء ما يسره من ذكاء متوقد، وعمل نافع.
ومن فرص الصيف العملية تدريب النشء على العمل، حتى إذا ما تخرجوا عرفوا أين يذهبون وما يختارون، فعلينا توجيههم نحو هذه الأنشطة النافعة التي تحفظهم من الضياع، حتى نُعد للمسؤولية التي حُمِّلناها جوابًا، وبياض وجه عندهم يوم يكبرون، ويعرفون ما عملناه معهم ولهم فيحمدونه.
إن الفراغ هو أحد أسباب النجاح أو الفشل، ونحن الآباء معنيون في نجاحهم وحمايتهم من الفشل، فإن النفس إذا لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولابد:
إن الفراغ والشباب والجدة = مفسدة للمرء أيُّ مفسده
فينبغي ألا نجعل لأبنائنا فراغا قاتلًا، بحيث تضيع فيه أعمارهم ومصالحهم، فإن مرحلة الشباب هي فرصة العمر وهي نواة نجاحهم، والحياة الشباب، لأن المرحلة العمرية الأولى هي التي تقبل التطويع والترويض والإصلاح، فإذا ذهبت فمن الصعب تقويمهم، كما قيل:
عدَّلِ الغصن ما دام يعتدلُ = ما ينفع التعديل عند الكبرِ
فمن المهم استغلال الإجازة بما ينفع، لا أن تترك كأنها لم تكن، ومسؤولية الآباء والأمهات والمربين في حفظ هذه المرحلة كبيرة، فعليهم أن يستغلوها أحسن استغلال، بأن يجعلوا الصيف جذوة نشاط لأبنائهم وبناتهم، فإن ما يجدونه من فراغ الوقت، يعتبر فرصة لا تقدر بثمن لاكتساب المهارات لا لضياعها باللهو والباطل.
ونظرًا لحال الناس الذين يستغلون فرصة العطلة الصيفية واشتداد حرارته للسفر بحثًا عن الراحة والاستجمام، وهم مع ذلك على صلواتهم يحافظون، وبأخلاقهم متمسكون، ولرضا ربهم يتطلعون، فنسأل الله لنا ولهم التوفيق، ونستودعهم الله الذي لا تضيع ودائعه.
وأول ما ينبغي التزود به هو تقوى الله تعالى فهو الصاحب في السفر، ومعرفة أحكام السفر؛ فقد يكون طاعة أو مباحًا أو معصية؛ فإن كان لأداء طاعة من نسك أو صلة رحم أو طلب علم؛ فهو سفر طاعة يثاب المرء فيه على كل حركة، وكل وقت يقضيه، وكل نفقة فيه.
وإن كان السفر لغرض الراحة والاستجمام أو الاستشفاء فهو سفر مباح، وقد ينقلب إلى طاعة إذا قصد به النظر والتفكر في ملكوت الله، ككل أمر مباح إذا أريد به وجه الله تعالى.
وقد يكون الباعث للسفر هو التلهي بالمعاصي والانفلات من الواجبات؛ فيكون سفر معصية من حين السفر إلى الرجوع منه، فالواجب التوبة من هذه النية وسوء الفعل.
ومن أهم أحكام السفر تحري الحلال من الطعام والشراب، فإن هذا من أهم المشاكل التي تواجه المسلم في البلاد غير الإسلامية، حيث يختلط الحلال بغيره، أو يشتبه، وذلك في اللحوم أو الدهون، فعلى المسلم أن يكون حريصًا جدًا على ما يدخل في جوفه، فإن أمر الله تعالى في ذلك أكيد وشديد، فقد أوجب الأكل من الحلال، وحرم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وهذه الأنواع هي أكثر لحوم البلاد غير الإسلامية، وفيما أحل الله تعالى غُنية عن تلك الخبائث.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة …
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، وبعد فاتقوا الله عباد الله وأعلموا أن من أعظم المهمات للمسافر المسلم أن يحرص على معرفة أوقات الصلاة، وتحديد جهة القبلة، ولا تشغله تنزهاته عن فرائض الله، بل يحافظ على الصلوات حتى يكون كل موضع من أرض الله سجد لله فيه شاهدًا له عند ربه، وحتى يحيي تلك الأرض بذكر الله تعالى.
ولا يغفل المسلم عن الأذكار ودعاء السفر فإن دعوة المسافر مستجابة، فما أحوجه للتحصن بالأذكار عن الأخطار وطوارق الليل والنهار.
وينبغي للمسلم أن ينأى بنفسه ومن تحت ولايته من مواطن الفتن والشبهات والشهوات حتى يستبرئ لدينه وعرضه.
ومن أهم المهمات أن يستشعر المسلم وهو في سفره أنه رسول خير وداعية إلى الله، بمحاسن الإسلام وأخلاقه وقيمه العظيمة، ليزيل بذلك الصورة المشوشة للإسلام والمسلمين لدى غير المسلمين.
حفظكم الله حالين ومرتحلين وأوصلكم سالمين، وردكم غانمين.