فرصة لا تعوض !

خطبة : فرصة لا تعوض

الحمد لله الذي جعل الصيام جُنة، وبابا موصلا إلى الجنة، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الفضل والمنة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي الرحمة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ذوي السابقة والنصرة وسلم تسليما مزيدًا. أما بعد، فاتقوا الله عباد الله فإنه يعلم السر والنجوى.

عباد الله، ها نحن نترقب موسمًا كريمًا بفضائله، عظيمًا بهباته، جليلًا بفوائده، إنها أيامٌ قلائل وتواكبنا نفحاتُ الخير ونسائم الرحمة والرضوان، فما أحلاها من أيام معطرةٍ بالذكر والعبادة وما أجملها من ليالٍ منورةٍ بابتهالات أنين القانتين وحنين التائبين.

إنه: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، إنه شهر العفو والغفران قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه). وقال عليه الصلاة والسلام:” إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين“.

رمضان أشرف الشهور، وأيامه أحلى الأيام، يعاتب الصالحون رمضانَ لقلة الزيارة، ولطول الغياب، فيأتي بعد شوق ويفد بعد فراق فيجيبه لسان الحال قائلًا:

أهلًا وسهلًا بالصيام يا حبيبنا زارنا في كل عامْ قد لقيناك بحبٍ مفعم كُل حب في سوى المولى حرامْ فاقبل اللهم ربي صومنا ثم زدنا من عطاياك الجسامْ لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلام 

إنها الفرصة المواتية لكل مسلم، والدنيا فرص إن اغتنمها المرء بلغ منتهى الآمال، وإن فرط فيها أو فوتها فهو المغبون الخاسر، إنها فرصة من فرص الآخرة من تعرض لنفحاتها وأحسن التعامل معها بصدق غُفر ذنبه وتفتحُ له أبواب الجنان.

وكم تمر بنا الفرص ونحن لا نشعر، الصلاة فرصة يومية، الثلثُ الأخير من الليل، ساعةُ الإجابةِ في يوم الجمعة، الصيامُ، ليلةُ القدر، الستُ من شوال، عشرُ ذي الحجة، يومُ عرفة، الحج، يومُ عاشوراء… هذه فرصٌ وما أعظمها، الواحدة منها تحملُ في طياتها السعادة والقبول، فرصٌ من المنعم المتفضل، فأين الذين يسارعون في الخيرات.

بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص واغتنم مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الصبح قنص 

سيد الشهور أقبل فمرحبًا به وأهلًا:

أتى رمضانُ مزرعةُ العباد لتطهير القلوب من الفساد فأد حقوقه قولًا وفعلًا وزادكَ فاتخذهُ للمعاد فمن زرع الحبوبَ وما سقاها تأوه نادمًا يومَ الحصادِ 

ولقد كان صلى الله عليه يصومُ شعبان ويهيئ أصحابه لقدومه كُل ذلك شحذًا للهمم وإذكاء للعزائم حتى تُحسنَ التعامل مع فرصةِ رمضان، ولا تفوتها.

وقد كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ويدعونه ستةً أخرى أن يتقبله منهم، وقال يحيى بنُ كثيرٍ: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني فتقبله.

رمضان آت فكيف حالنا، واستعدادنا وما هي مراسم الاستقبال، اللائقة بهذا الوافد الجليل.

إن استقبالنا واحتفاءنا بضيفٍ يكون بحسب منزلته فكيف بضيف الآخرة الذي يأتي بالخير والرضوان، ضيفٌ لا تخرج له بل هو الذي يدخل إلى قلبك فيفرحك، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].

إن إكرامنا لضيف بهذه المثابة يكون بالجد والاجتهاد، وهذا هو الهدي النبوي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل يكونُ أجودَ بالخير من الريح المرسلة)، رواه البخاري.

وهكذا كان الصحابة والتابعون والصالحون على هذا المنوال في الاقبال في رمضان على القرآن والمساجد والبر والدعاء.

وهناك أقوام لا يعرفون الله إلا في رمضان، وهذه مخادعة وتسويل من الشيطان.

وأقوام تعساء بلداء يستقبلونه بالضجر والحرج على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي فيُحسون بالحرمان فلا يفرحون بقدومه، حتى لقد قال بعض التعساء من أولاد الخلفاء:

دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهرًا بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر 

والذي حصل لهذا الشاب أن ابتلي بمرض الصرع فكان يصرع في اليوم مرات وكرات ومازال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر، نسأل الله حسن الختام.

رمضان فرصة وأيُ فرصة لتصحيح المسار، وبداية النهاية لكل شيء يبعد عن الله، سيما والنفوس مهيأة للخيرات، مقبلة على التراويح والقنوت والدعوات..

اللهم اجعلنا ممن صام الشهر واستكمل الأجر وفاز بليلة القدر، وممن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واعلموا أن من نعم الله علينا أن مدّ في أعمارنا فأدركنا شهر رمضان، فكم غيب الموت من صاحب ووارى الثرى من حبيب، وكم من إنسان أمل صيامه وقيامه فخانه أمله وصار قبله إلى القبر وظلمته، فبادروا وافعلوا الخير لعلكم تفلحون.