“قد أفلح من زكاها”
“قد أفلح من زكاها” (خطبة جمعة للشيخ محمد السير)
الحمد لله، يهدي من يشاء، ويزكِّي من يشاء، أحمده سبحانه على الهداية والنعماء، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء وإمام الأصفياء، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته، واهتدى بـهداه إلى يوم اللقاء؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله، إن أطول قسم في القرآن الكريم هو ذلك القسمُ في مطلع سورة الشمس، ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 – 8]، هذه الأقسام الأحد عشر جوابها شيء واحد، ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، هذا الجواب يتمثل في الحقيقة الكبرى، والغاية التي خلق الله الإنسان من أجلها، وسخر له ما في هذا الكون ليعينه على القيام بها؛ وهي عبادته وتوحيده، والفوز والفلاح لمن حقق هذه الغاية، فزكَّى نفسه بالإيمان والطاعة، وطهَّرها من الآثام والرذائل، والخيبة والخسران لمن قصر عن الوصول إلى هذه الغاية فدسَّى نفسه بالكفر والفسوق والعصيان.
والتزكية هي الطهارة، والنماء، والزيادة، والبركة، والمدح، وكل ذلك قد استُعْمِل في القرآن والحديث، وتزكية النفس تشمل أمرين اثنين لا ينفكان: إصلاحها وتنميتها بالإيمان والطاعات والأخلاق الحميدة، وتطهيرها من الكفر والآثام والأخلاق الرذيلة.
والتزكية منزلتها عظيمة؛ فهي الركيزة الأساس لدعوة الرسل عليهم السلام؛ قال تعالى آمرًا موسى: ﴿ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ [النازعات: 18، 19]، وكان من دعاء الخليل عليه السلام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
والتزكية تعني العودة إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها قبل أن ينحرفوا عنها، ويسلكوا سُبُل الغواية والشرك؛ قال تعالى ممتنًّا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، فقدَّم سبحانه ذكر التزكية على التعليم؛ لأنها تعني تطهير النفس من الشرك، والعودة بها إلى الفطرة السليمة.
بالتزكية تتحقق التقوى: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 7، 8]، فقد بيَّن سبحانه أنه خلق النفس، وبيَّن لها طريق التقوى وطريق الفجور، فمن اختار طريق التقوى، فقد زكَّى نفسه، والمنتهى الجنة والنجاة من النار: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ﴾ [الليل: 17، 18].
والتزكية فضلٌ من الله ورحمة يهدي إليها مَن يشاء مِن عباده الذين علم فيهم خيرًا وإقبالًا على طاعته، واجتنابًا لمعصيته؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21]، والشيطان والنفس والهوى وفتن الدنيا متكالبة على العبد من كل مكان، فلو خُلِّيَ وهذه الدواعي ما زكى أحد أبدًا، ولكن الله بفضله يجتبي من يشاء من عباده، فيطهره من الرذائل، وينميه بالفضائل؛ فيُفلِح في دنياه وأخراه؛ ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ [الأعلى: 14، 15].
وقد رسم الإسلام الطريق للوصول التزكية المشروعة، الذي لا يكون إلا من خلال الأخذ بالأسباب الموافقة للشرع، واتباع هَدْيِ النبوة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31].
قال ابن القيم: “وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكَّى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي عالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم”؛ [مدارج السالكين].
والتزكية ليست مجرد دعوى باللسان، ولا تحصل بمدح الناس وثنائهم، فضلًا عن مدح النفس والثناء عليها؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ﴾ [النساء: 49]، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تزكية الناس في وجوههم؛ لئلا يدخل العُجْبُ إلى نفوسهم؛ فيكون ذلك سببًا في انحرافهم؛ فقد أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك؛ مرارًا، ثم قال: من كان منكم مادحًا أخاه لا محالة، فليقل: أحسب فلانًا، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك منه))؛ [متفق عليه].
والتزكية تشمل الحياة كلها؛ عقيدة وعبادات ومعاملات؛ ففي العقيدة بإخلاص الدين لله، واستكمال أركان الإسلام والإيمان، والبراءة من الكفر والشرك والنفاق، وكل ما يخل بالإيمان.
وفي العبادات تكون التزكية بفعل ما أمر الله به من الفرائض، والتقرب إليه بالنوافل من السنن والمستحبات، وتكون بترك ما نهى الله عنه من المحرمات، وما هو دونها من المكروهات.
وفي المعاملات تكون بالتزام حدود الله وشرائعه التي نظم بها علاقات الناس وتعاملاتهم، وبالتحلي بالأخلاق الحسنة، والآداب الجميلة؛ فإنها من شعب الإيمان.
والنفوس إنما تزكو بالعلم الذي يحصل به تعظيم الله وخشيته، ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، والإقرار لله بالتوحيد؛ فإن أصل زكاة النفس بالتوحيد وإخلاص الدين لله.
والعناية بزكاة القلب مطلب مهم؛ فهو سبب رضوان الله تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، والقلب هو القائد للجوارح، ومحل العبادات القلبية كالإخلاص والمحبة، والخشية؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب))، وقد كان صلى الله عليه وسلم ((يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك)).
وإن من أعظم أسباب التزكية الدعاء لبلوغها؛ كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)).
فاللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، واجتهدوا في تزكية قلوبكم وأعمالكم؛ فبها يكمل إسلام المرء، ويتذوق حلاوة الإيمان، ويصل إلى مرتبة الإحسان، وينال رضا الرحمن، والفوز بالجنان، ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 75، 76].
واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه؛ فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على النبي المصطفى المختار، وصلِّ على الآل الأطهار، والمهاجرين والأنصار، وجميع الصحب الأخيار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لِما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى.
اللهم انصر جنودنا المرابطين، وردهم سالمين ظافرين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.