مدرسة عاشوراء
الحمد لله العلي الكبير، تفرَّد بالخلق والتدبير، أحمَده سبحانه وأشكره، أعز أولياءه بنصره، فنعم المولى ونِعم النصير، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
وفي قصة موسى عليه السلام، وإنجاء الله له ولمن تبِعه، وهلاك عدوِّ الله فرعون وجنده – أعظمُ الدروس والعبر، وقد أبدى القرآن الكريم في هذه القصة العظيمة وأعاد، لتستفيد منها هذه الأمة؛ يقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور﴾ [إبراهيم: 5].
والتذكير بأيام؛ أي: بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، وبأيامه في الأمم المكذبين، ووقائعه بالكافرين؛ ليشكروا نعمه وليحذَروا عقابه، فتذكُّرُ أيامِ الله التي نصر فيها أنبياءَه وأتباعَهم، وخَذَل فيها أعداء الرسل وأشياعهم، موجِبٌ للشكر، وحمدِ الله تعالى على ذلك.
وفي طليعة دروس عاشوراء الإيمان بالقضاء والقدر؛ فالأمر كُله لله، وهو الفعال لما يريد، مهما دبَّر البشرُ وأرادوا، فقد حُذِّر فرعون من غلام يولد، ستكون نهاية ملكه على يده، ومع شدة حذره وأمره بقتل كل مولود ذكرٍ، كانت إرادة الله لها شأنٌ آخر، فها هو الرضيع ينشأ في قصره، وفي كنف زوجته، ليكون لهم عدوًّا وحزنًا، وتتوالى الأيام، والقدر يمضي لما سبق في علم الله، حتى يموت هذا الطاغية ويهلك في البحر، فالعبد يريد، ولكن الله يريد، ولا يتم إلا ما يريده ربُّ العبيد، فسبحان من هذا أمرُه، وتلك حكمته!
والمؤمنون متوكلون على الله، واثقون بنصره، موقنون بفرجه، يستشعرون معية الله وحفظه؛ فموسى وقومه في موقف عصيب، البحر أمامهم، وفرعونُ خلفهم، فيتسرب القلقُ إلى كثير ممن كان معه ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، فيقول لهم موسى بلسان الواثق الموقن بوعد الله ونصره: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، فيأتي الفرج ممن بيده مفاتيح الفرج، ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63].
وفي لحظة حاسمة تتحطم قوةُ الباطل على صخرة الحق، وبضربة من عصا على حجر صلد تتفتح أبوابُ الفرج، ليصبح اليم الخضم ثابتًا كأطواد الجبال، فدخل موسى وقومُه يمشون بين جبال الماء في طرق يابسة، آمنين، فلما تكاملوا خارجين، وتكامل فرعونُ وقومُه داخلين، أمر اللهُ البحرَ أن يعود إلى حاله، فنجَّى الله المؤمنين، وأغرَق الكافرين، فأين الموقنون؟!
ولله جنود لا يتصورها البشر، ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]، فقد أهلك الله الطاغية الجبار بالماء الذي افتخر به، فمات أسوأ ميتةٍ وأذلها! ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: 79].
ويوقن الواثقون بوعد الله أن طريق النصر ليس مفروشًا بالورود والرياحين، بل هو إيمان وجهاد، ومحنة وابتلاءٌ، وصبر وثبات، ثم يجيء النصر، ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر: 51، 52].
وفي الدعاء أملٌ من الضيق، وفرج من الكروب، ومع ذلك فلابد من الاستقامة، وعدم الاستعجال في حصول المطلوب، فذلك أمرٌ يقدره الله أنى شاء وكيف شاء: ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 89]، قال ابن جريج: يقال: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وقيل: مكث أربعين يومًا.
ومن مقتضيات طريق الحق الاستعانة بالله، والصبر والمصابرة، فإن العاقبة للمتقين: ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [الأعراف: 128].
العاقبة لأهل التوحيد ولو بعد حين، والذل والصَّغار للكفر وأهله مهما طال بقاؤه، فتوحيد الله وإفراده وحده بالعبادة هو لُبُّ دعوة الرسل جميعًا، وبسببه أنجى الله كليمه موسى عليه السلام ومن آمن معه، وبسبب الشرك بالله أهلك الله فرعون وجنده.
ومن دروس عاشوراء تعميق الولاء وتعزيز الانتماء الحقيقي، فاليهود علَّلوا صيامهم عاشوراءَ بمتابعتهم لموسى عليه السلام؛ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: “نحن أوْلى بموسى منكم”، فصيامهم هذا لا يكفي برهانًا للمتابعة، إنما الولاية بحسب تمام المتابعة، والتزام المنهج؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]، ولذا كانت الأمة المحمدية هي أحقَّ بموسى، وأولى به من أتباعه الذين بدلوا دينه، وحرَّفوا كتابه، فنحن إليه أقرب وبه أحق؛ لأننا أمة التوحيد الذي هو أصل دعوة الرسل جميعًا، وإن اختلفت شرائعهم فدينُهم واحد، فالدين عند الله الإسلام.
(نحنُ أوْلى بموسى منكم)، قالها النبي صلى الله عليه وسلم لليهود الذين خالفوا نهج التوراة، وكابروا في اتِّباع ما وصَّى به موسى وعيسى، وما أُنزل في كتبهم من الإيمان بالنبي المبعوث آخر الزمان، وهو نبينا محمد عليه وعلى رسل الله أجمعين الصلاة والسلام، فالأنبياء أولادُ علَّات، دينهم واحد وهو الإسلام، وشرائعهم مختلفة، ولذلك أمره ربُّه سبحانه أن يقتفي هدي الأنبياء قبله، ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90].
لقد صام موسى عاشوراء شكرًا لله تعالى، وصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه، فقيل له: يا رسول الله إنه يوم تعظِّمه اليهود والنصارى، فقال: “فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع“، قال ابن عباس: “فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم”؛ رواه مسلم.
وفي مدرسة عاشوراء تربيةٌ على التميُّز والاعتزاز بالدين، ففي هم النبي صلى الله عليه وسلم على صيام التاسع دليلٌ على أن مخالفة الكفار وخاصة أهل الكتاب من مقاصد الشريعة كما نص أهل العلم، وحتى لا يقع المسلم في حمأة التشبُّه والتبعية لغير المسلمين، فينسلخ من شخصيته وأصالته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من تشبه بقوم فهو منهم“.
وعبادة الله تعالى أبلغُ الشكر، وهكذا هي حياة الأنبياء والرسل ومن سلك طريقهم، شكر في الرخاء، وصبر في الضراء، فإن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام صام هذا اليوم شكرًا الله، وصامه نبينا صلى الله عليه وسلم وأمرنا بصيامه؛ شكرًا لله على ما وفَّق له أخاه موسى عليه الصلاة والسلام من النصر، ذلك أن سنة الأنبياء واحدة، فرحٌ بظهور الحق، وخِذلان الباطل، ومقابلةُ ذلك بالشكر والحمد، والثناء والعمل الصالحُ.
ودرس في الاتباع وعدم الابتداع، فالاحتفاء والاحتفال بمناسبة ما، يكون تبعًا للنصوص الشرعية، فلا يتعداها المسلمون ببدع محدثة، فقد أحدث في عاشوراء من البدع ما أحدث، ومن ذلك نعي الحسين رضي الله عنه في المنابر والمجالس، مع إظهار التحزين والنياحة، وأسوأ من هذا قذف الطاهرات أمهات المؤمنين، وسب الصحابة الكرام سادات المؤمنين، وغيره، مما لم يأذن به الله تعالى، ولم يَسنَّه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عمل به أحدٌ من سلف الأمة، ولا ريب أن قتل الحسين رضي الله عنه مصيبةٌ نزلت بالمسلمين، ولكن المصائب لا تقابَل بأمور الجاهلية، بل تقابَل بالصبر والرضا والاحتساب.
وفي مدرسة عاشوراء تتجلى معاني التربية الحقة للناشئة على العبادات والشرائع، وإحياء معاني وفضائل هذا اليوم العظيم، قالت الرُّبيع بنت معوذ رضي الله عنها عن هذا اليوم: “فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، ونُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، ونَجْعَلُ لهمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أحَدُهُمْ علَى الطَّعَامِ، أعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حتَّى يَكونَ عِنْدَ الإفْطَارِ“، ومن المهم أن يكون اللعب للأولاد هادفًا ومشجعًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعدُ:
فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى، وفي الدين أبواب للخيرات والكفارات ورفعة الدرجات، قال صلى الله عليه وسلم:» صيام يوم عاشوراء أحتسِبُ على الله أن يُكفر السنة التي قبله «رواه مسلم، وكم للصيام من فضل وعظيم أجرٍ، فهو من أفضل العبادات التي قال عنها الله تعالى:» إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، و»مَنْ صامَ يومًا في سبيلِ اللهِ، بعَّدَ اللهُ وجهَه عن النارِ سبعينَ خَريفًا”،والمسلم الحريص لا يُفرِّط في أجرٍ كهذا، وقد مَنَّ الله تعالى عليه بإدراكه.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المرضيين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتَّبع سُنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق خادمَ الحرمين الشريفين، وولي عهده.
اللهم وفِّقهما لهداك، واجعل عملهما في رضاك، وهيِّئ لهما البطانة الصالحة يا رب العالمين.