مكانة كبار السن في الإسلام
خطبة : مكانة كبار السن في الإسلام
للشيخ محمد السبر الجمعة 11/ 3/ 1440هـ جامع موضي السديري
الخطبة الأولى :
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ﴾ [غافر: 67]، لقد عُني الإسلام بمرحلة الشيخوخة، وهي مرحلة طبيعية من مراحل حياة الإنسان، فقد أشار سبحانه وتعالى إلى المرحلة الجنينية، والمرحلة الطفولية، ومرحلة بلوغ الأَشُدِّ – وتشمل مرحلة الشباب والكهولة – ثم مرحلة الشيخوخة: ﴿ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا ﴾ [غافر: 67]، والشيخوخة مرحلة ضعف؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54]، فالأيام ومُضيُّ الأعوام وعوامل النحت تعمل عملها في الإنسان؛ وقد عبَّر عن ذلك نبي الله زكريا حينما قال: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 4]، فهذه طبيعة الإنسان، أن يَهِنَ عظمه، وتضعف قوته وحيلته، ويفتقر إلى معونة غيره.
ثمانيةٌ لا بد منها على الفتى
ولا بد أن تُجرى عليه الثمانية
سرور وهمٌّ واجتماع وفُرقة
وعسرٌ ويسرٌ ثم سُقْمٌ وعافية
|
ومن الشيخوخة مرحلة متأخرة سماها القرآن الكريم أرذل العُمُر؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾ [الحج: 5]، وأرذل العمر كما قال ابن عباس: أردؤه، ولقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله من أمور خمسة، فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجُبن، وأعوذ بك أن أُرَدَّ إلى أرذلِ العُمر، وأعوذ بك من فِتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر))؛ [رواه البخاري]، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم بالله من أن يرد إلى أرذل العمر فيَنسى بعد تذكُّر، ويَضعُف بعد قوة، ويَُصبح كَلًّا على غيره.
وبنتا الرجل الصالح شعيب ﴿ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾ [القصص: 23]؛ أي: فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى؛ فأبونا شيخ كبير لا قوة له على السقي؛ فلذلك احتجنا نحن إلى سقي الغنم، فليس فينا قوة نقتدر بها، ولا لنا رجال يزاحمون الرعاء.
وإخوة يوسف ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]، قالوا مستعطفين ليوفوا بعهد أبيهم: إن له أبًا شيخًا كبيرًا؛ أي: كبير القدر، يحبه ولا يطيق بُعْدَه.
هذا شيء من شأن الكبير وقَدْره في كتاب الله تبارك وتعالى.
نعم عباد الله، لقد جاء دين الإسلام بخُلُقِ البر والإحسان للشيوخ وكبار السن، ورعاية حقوقهم، وتعاهُدِهم، وعدَّ هذا الأمر من أعظم أسباب التكافل الاجتماعي ومن جليل أعمال البر والصلة؛ ذلك أنه عندما يتقدم العمر ويهن العظم ويشتعل الرأس شيبًا – يحتاج الكبير إلى رعاية خاصة، واحترام وتبجيل، وحسن صحبة بالمعروف؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا))؛ [حديث صحيح، رواه الترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح].
الشيوخ والكبار لهم فضلٌ في الإسلام، ولهم حقوق وواجبات تحفَظ قدرهم؛ فالخير والبركة في ركابهم، والمؤمن لا يُزاد في عمره إلا كان خيرًا له؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((واجعل الحياة زيادة لي في كل خير))، وفي الحديث: ((… وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا))؛ رواهما مسلم.
وكبار السن الصالحون خير الناس؛ فعن عبدالله بن بسر: ((أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسُن عمله))؛ لأن من طال عمره، ازداد علمه وإنابته ورجوعه إلى الله عز وجل؛ والشباب شُعبة من الجنون، فيزداد الرجل في الشباب في الشهوات واللذات، والشيخوخة موجبة للخير والزهادة في الدنيا.
دخل سليمان بن عبدالملك مرة المسجد، فوجد في المسجد رجلًا كبير السن، فسلَّم عليه وقال: يا فلان، تحب أن تموت؟ قال: لا، قال: ولمَ؟ قال: ذهب الشباب وشرُّه، وجاء الكبر وخيرُه، فأنا إذا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد لله، فأنا أحب أن يبقى لي هذا.
كبار السن أهل تجربة وخبرة ومعرفة ببواطن الأمور؛ عَرَكَتْهم الحياة ودرَّبتهم المواقف، وأنضجَتهم الأحداث، ففي صحبتهم بركة؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الخير مع أكابركم))، وفي رواية: ((البركة مع أكابركم))؛ قال المناوي: “فالبركة مع أكابركم المجرِّبين للأمور، والمحافظين على تكثير الأجور، فجالِسوهم؛ لتقتدوا برأيهم، وتهتدوا بهديهم …”.
إجلال الكبير من خلال احترامه وتوقيره؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا))؛ [صحَّحه الألباني في صحيح الترمذي]، وعن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط))؛ [حديث حسن، رواه أبو داود].
“إن من إجلال الله”؛ أي: تبجيله وتعظيمه، “إكرام ذي الشيبة المسلم”؛ أي: تعظيم الشيخ الكبير في الإسلام بتوقيره في المجالس، والرفق به، والشفقة عليه، ونحو ذلك، كل هذا من كمال تعظيم الله؛ لحرمته عند الله؛ [عون المعبود (13/ 132)].
ويظهر ذلك التوقير والاحترام في العديد من الممارسات العملية الحياتية؛ فمن إجلال الكبير بدؤه بإلقاء التحية والسلام عليه؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((يسلِّم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي))؛ [رواه البخاري].
ومن إجلال الكبير: الابتداء به وتقديمه في الأمور كلها؛ كالتحدث والتصدر في المجالس، والبدء بالطعام والجلوس، وغير ذلك، فالأولى في الصلاة أن يليَ الإمام مباشرةً كبار القوم وذوو المكانة والمنزلة العلمية والعمرية أهل العقول والحكمة؛ فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال أبو مسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافًا))؛ [رواه مسلم].
ومن إجلال الكبير: تقديمه في الكلام؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدث عنده اثنان بأمر ما، بدأ بأكبرهما سنًّا، وقال: كَبِّرْ كَبِّرْ.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أراني أتسوك بسواك، فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كَبِّرْ، فدفعته إلى الأكبر منهما))؛ [رواه مسلم].
ومن إجلال كبير السن في الحديث: منادته بألطف خطاب وأجمل كلام، وليس من أدب الإسلام الاستخفاف بالكبير، أو إساءة الأدب في حضرته، أو رفع الصوت بحضرته أو في وجهه بكلام يسيء إلى قدره وعمره؛ روى الشيخان عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: “لقد كنتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا، فكنت أحفَظ عنه، فما يَمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالًا هم أسن مني”.
ومن إجلال الكبير: الدعاء له بطُول العمر في طاعة الله، والتمتُّع بالصحة والعافية، وبحسن الخاتمة، ومن بر الوالدين الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما؛ قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
ومن إجلال الكبير: أن يعيش مكفول الحاجات المادية، يُوفَّر له غذاؤه ودواؤه، وملبسه ومسكنه، وأولى الناس بالاهتمام بهذا أسرته وأولاده؛ فكما ربَّاهم صغارًا، يجب أن يَكفلوه كبيرًا، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ولا يجوز لأبنائه وذويه بحال أن يفرِّطوا في هذا الواجب، ولا أن يَمُنُّوا على والديهم بهذا؛ فهي نفقة واجبة وحق مؤكد.
معاشر الأبناء والبنات، لقد أوصى القرآن بالوالدين، وخصَّ بالذكر حالة بلوغ الكبر؛ فقال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24]، ونهى الله تبارك وتعالى في هذه الآيات عن أمرين: ﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]؛ الأُفُّ: مجرد التأفف والتضجر، والنَّهر: وهو الزجر، وأمر سبحانه بثلاثة أمور: ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾؛ أمر بالقول الكريم اللين، وخفض الجناح، والدعاء لهما، ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾؛ يعني: ادعُ لهما في حياتهما وفي موتهما.
وكان أبو هريرة رضي الله عنه إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه، فقال: السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتِني صغيرًا، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيرًا، وإذا أراد أن يدخل صنع مثله.
معاشر الأبناء والشباب، ليس من البر قطيعة الوالدين وهجرهما، وإسلامهما للخادم والمرافق أو للوحدة الموحشة، فالإنسان ليس مجرد مخلوق يأكل ويشرب، الإنسان أكبر من ذلك؛ فله أشواق وطموحات وحقوق أدبية، ومن حق الأب والجد أن يعيش مع أولاده وأحفاده، ومن حق الأحفاد أن يستمعوا إلى حكايات جدهم، وأن يتعلموا من تجاربه، من حقهم أن يؤنسهم، ومن حقه أن يؤنسوه.
إن رعاية المسنين في الإسلام نموذج أمثل للتكافل الاجتماعي؛ فقِيَمُنا قيمٌ إسلامية أصيلة، ترحم الضعيف والصغير، وتوقر الكبير، وتحترم العالم والسلطان، وقيم غيرنا من غير المسلمين قيم غربية غريبة، تفككت أسرهم، فلا يكاد الابن يعرف أباه أو أمه بمجرد أن يبلغ الحلم، وهام كل واحد على وجهه؛ ولذلك احتاجوا إلى أن يحتفلوا بعيد للأم، يوم في العام يتذكر الواحد منهم فيه أن له أمًّا، وماذا يفعل؟ لعله يرسل إليها بهدية، أو رسالة ود أو نحو ذلك، هذه هي حياتهم، يرمونهم في المصحات ودور المسنين، ويعيش أحدهم في وحدة وغربة، لا يتمتع فيها بأبناء ولا أحفاد، والإسلام لا يرضى للإنسان إلا أن يحيا كريمًا عزيزًا موقرًا.
الخطبة الثانية
عباد الله، يقول الله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]، أيها الابن البار، احرص على مراعاة كبر والديك، وتذكر أنك وإن كنت قويًا الآن، فستعود يومًا إلى ضعفك الذي كنت عليه، فلا تتكبر عليهما لأجل منصب أو زوجة أو غيرها، واعلم أنك إذا أكرمت شيخًا وأنت شاب، جزاك الله من جنس عملك، فهيأ لك وأنت شيخ من يكرمك وأنت في حاجة إلى الإكرام، وبرِّوا آباءَكم، تَبرَّكم أبناؤكم.