مواعظ الحر
خطبة مواعظ الحر ألقيت الجمعة 18 شوال 1440هـ للشيخ محمد السبر
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق تقاته: (وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: الزمانُ بليله ونهاره، وشهوره وأعوامه، وصيفه وشتائه؛ آيةٌ من آيات الله -تبارك وتعالى- التي نصبها للعباد موعظةً وذكرى في تقلب الأحوال وتصرفها وغِيَرِ الأيام وتصرمها.
يذكرنا كَرُّ الغداة ومَرُّ العشي بأن الحياةَ مراحل، وأَن كُلَّ مرحلة لها قيمتُها ومكانتُها، ولكل منها تَبِعةٌ مطلوبةٌ وحسابٌ قائمٌ.
الحر دليل من دلائل ربوبية الله -سبحانه وتعالى-، فهو الذي يقلّب الأيام والشهور، ويطوي الأعوام والدهور، وهو الواحد الأحد الصمد المستحق للعبادة سبحانه وبحمده، قال تعالى: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور: 44]، فوجوده سبحانه وربوبيتُه وقدرتُه أظهرُ من كل شيء على الإطلاق.
وفي كُل شيء له آيةٌ *** تدلُ على أنه واحدُ
الحر تذكير بنعم الله وآلائه، يقول تبارك تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)[النحل: 81].
ففي فصل الصيف وشدة الحر، نتذكر ما منَّ به ربنا على عباده وأنعم من الوسائل التي تقي الصيفَ وقيضَه، من الظلال الوارفة والأشجار اليانعة، وما يسر من وسائل التبريد والتكييف المختلفة ما تطمئن به النفوس، وتسعد به الأرواح في البيوت والمساجد والسيارة والعمل أجهزة تقلبُ الصيفَ شتاءً والشتاءَ صيفاً، وتخففُ من لأواءِ الهجير، وتطفئُ لهبَ القيظ، ومن تذكر ذلك وتأمله حمد ربه وعبده حق عبادته، ويظهر الشكر حينما يتذكر الإنسان من يسكنون بيوت الصفيح والخيام والقش.
وإن هذا يدعونا لأن نتذكر إخوانا لنا في الدين لا يملكون ما نملك من هذه الوسائل الحديثة، وإن ملكوها فلا يستطيعون دفع ما يترتب على عملها من أموال، فأعينوهم -عباد الله- واحتسبوا الأجر من الله، قال تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[المزمل: 20]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “اتقوا النارَ ولو بشق تمرة“.
ابن آدم ملول، قد وصفه ربه بأنه ظلوم جهول، ومن جهله عدم الرضا عن حاله، فإذا جاء الصيف تضجر منه وإذا جاء الشتاء تضجر منه.
يتمنى المرءُ في الصيف الشتاء*** فإذا جاء الشتاء أنكــره
فهو لا يرضى بحال واحــــــد *** قتل الإنسان ما أكفــره
وهذا من طبع البشر ولكن المسلم يرضى بما قدر الله له من خير أو شر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له“(رواه مسلم).
الحرّ ابتلاء من الله -تعالى- لعباده، ليظهر صدق الإيمان في القيام بالتكاليف والصبر على طاعة الله وأقداره وتحمل أعباء الدعوة فلا يجوز أن يترك المسلم ما أمره الله به من واجبات، فحين خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة وكانت في حرٍ شديدٍ وسفرٍ بعيد تواصى المنافقون فيما بينهم بعدم النفير في هذا الحر فجاء الوعيد من الله: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81]، وحين يخرج المصلي إلى صلاة الظهر أو العصر فيرى الشمس اللاهبة، ويحس بالحر الشديد، ولكنه يطمع في رحمة رب العالمين، ويدخر هذا المخرج عند الله في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
الحر ليس عائقاً عن عبادة ولا صاداً عن طاعة، فالصفوة من عباد الله يرون أن في الحر غنيمة لا تفوت، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: “خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ“(رواه مسلم).
صيام الهواجر ومكابدة الجوع والعطش في يوم شديدٍ حرُّه بعيدٍ ما بين طرفيه، ذاك دأب الصالحين وسنة السابقين، والمحروم من حُرم، يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- موصياً أصحابه: “صوموا يوماً شديداً حرُه لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور”.
وكان ابنُ عمرَ وغيرُه من السلف إذا شربوا ماءاً بارداً بكوا وذكروا أمنيةَ أهلِ النار، وأنهم يشتهون الماء البارد وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة: (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، فيقولون لهم: (قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)[الأعراف: 50].
اشتداد الحر يُذَكِّرُنَا بحر جهنم -أعاذنا الله منها- تلكم النار التي أعدها الله -جل وعلا- للكافرين ويعذبُ بها من يشاء من عباده المؤمنين العاصين، وإن اشتداد الحر في هذه الدنيا هو من نفس النار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء ونفسٍ في الصيف، فهو أشدُ ما تجدون من الحر وأشدُ ما ترون من الزمهرير يعني البرد“(متفق عليه)، وفي رواية للبخاري قال: “فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم“.
والمقصود تأخيرُ صلاة الظهر إلى قرب صلاة العصر عند اشتداد الحر، فإذا كان هذا الحر الشديد والشمس المحرقة إنما هي نفس من أنفاس جهنم فيا ترى ما عذابها إذاً؟
هل تذكر العاصي لربه تلك النار التي توقد وتغلي بأهلها حين أقدم على معصية الجبار -سبحانه- مستهيناً بمولاه وجاحداً لنعمته عليه، ومتناسياً ما أُعد من العذاب والنكال للكفرة والفجرة والعصاة: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)[الكهف: 29]، (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)[الليل: 15-16].
نسيت لظى عند ارتكابك للهوى *** وأنت توقى حر شمس الهـواجر
كأنك لم تدفن حميما ولم تكـن *** له في سياق الموت يوما بحاضر
ما أُنذر العباد -رعاكم الله- بشيءٍ أشرَّ من النار، النارُ موحشةٌ، أهوالُها عظيمةٌ، وأخطارُها جسيمةٌ، وعذابها أبداً في مزيد، لا يُفتر عنهم وهم فيه مبلسون كلما خَبتْ زادها الله سعيراً، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إن الصخرةَ العظيمةَ لتلقى من شفير جهنم فتهوي فيها سبعينَ عاماً ، ما تفضي إلى قرارها“قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وهو راوي الحديث: “أكثروا ذكرَ النارِ، فإن حرَّها شديدٌ، وقعرَها بعيدٌ، وإن مقامعَها حديدٌ“(رواه الترمذي).
أُوقدَ عليها ألفُ عام حتى احمّرت، وألفُ عامٍ حتى ابيضت، وألفُ عامٍ حتى اسودّت فهي سوداءُ مظلمة، لها تغيظٌ وزفيرٌ، قال تعالى: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)[الفرقان: 12-13]، وقال تعالى: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)[الحجر: 43-44].
عباد الله: إن الناس حريصون كُلَ الحرص على راحة أنفسهم وأهليهم، يوفرون لهم الوسائل الواقية من الحر، وإذا ما اشتدت عليهم سمومُ الحرِ رأيتهم يتنقلون إلى المصائفِ والمنتجعاتِ الباردةِ، ويلوذون إلى المكيفات الحديثة أو الظلال الوارفة، وكم هو عظيم الأسى عند ما نرى أكثرَهم لا يقيم وزناً لنار جهنمَ، ولا يعمل على وقاية نفسه ومَنْ تحت يده منها، والله -عز وجل- قد خاطب عباده المؤمنين، وحذرهم منها، بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].
فيا من لا يطيق حرارة الجو، يا من لا يتحمّل الوقوف في الشمس ساعة: كيف أنت وحرارة جهنم؟! والله ثم والله، لست لها بمطيق، فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وجهنم أولى أن يُفرّ منها نصح العلامة الألبيري ابنه فقال:
تفر من الهجيـر وتتقيـه *** فهلا مـن جهنم قد فررتـا
ولستَ تطيق أهونها عذابا ***ولو كنت الحديـد بِها لذبتا
ولا تنكر فإن الأمر جـد *** وليس كما حسبتَ ولا ظننتا
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراً.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا.
وبعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعلموا أن أقدامنا على النار لا تقوى.
عباد الله: ولئن كان حرُّ الدنيا يتقّى بالمكيفات وغيرها فإن حرّ الآخرة وهو أشد وأفظع لا يتقى بشيء من ذلك أبداً، إنما يتقى بالإيمان والأعمال الصالحة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً“ قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه(رواه مسلم).
سيأتي يومٌ شديدٌ الحر عظيم الكرب، الذي لا مفر منه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم“(أخرجه البخاري).
ومنهم من ينعم بالاستظلال بظل الله يوم لا ظل إلا ظله، قال صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه“(متفق عليه).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً)[النساء: 57].
اللهم أظلنا تحت ظلِّ عرشك يوم لا ظلّ إلا ظلُّك.
اللهم هون علينا الحساب، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
اللهم نبهنا من رقدة الغافلين، ومن علينا بعفوك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واعصمنا من الفتن الشرور.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.