نعمة الماء

خطبة: نعمة الماء

الحمد لله، الذي أنزل من السماء ماءً بقدر، نقياً من الشوائب والكدر، فعمَّ به البوادي والحضر، نحمدُه سبحانه أنزل بقدرته من السماء ماءً مباركاً وطهوراً، ونشهد ألا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إِلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

عباد الله: إن نعم اللهِ على الإنسانِ لا يَحدها حدٌ، ولا يُحصيها عَدٌ، ولا يُستثنَى من عمومها أحدٌ، فهي نعم عامة، سابغة تامّة، ظاهرة وباطنة، ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [إبراهيم: 34].

ومن أجل هذه النعم نعمة الماء، فهو سر الوجود، وأرخص موجود، وأغلى مفقود، وأساس الحياة كما أخبر ربنا المعبود: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، وإنزال الماء أمر بيد الله تعالى، لا بيد غيره، فهو القائل: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22]، وهو من صور رحمة الله بعباده، وقد يمسك رحـمته لحكمة يعـلمها سبحانه، ﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [فاطر: 2].

وورد ذكر الماء في القرآن الكريم في تسع وخمسين آية، من المياه النازلة ومن السماء أو الخارجة من الأرض أو المختزنة فيها، قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الزمر: 21].

وهذا يدل على أهمية نعمة المياه وعظيم قدرها، فلولا نعمة الماء لما كان في هذه الحياة إنسان، وما عاش حيوانٌ، وما نبت زَرْعٌ أو اخضر شَجَر، فمنه تشرب ومنه يخرج المرعى، وبه تكسى الأرض بساطاً أخضرَ، وتكون للناظر أحلى وأجمل، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 10 ، 11].

الماء هبة الخالق تفضل بها على عباده، فهذا الماء المبارك لا تستغني عنه جميع الكائنات، فلا غذاء إلا بالماء، ولا نظافة إلا بالماء، ولا دواء ولا زراعة ولا صناعة إلا بالماء، هو الثروة الثمينة، فالبلاد التي بلا ماء تهجر، ولا تسكن!.

إنَّ من الناس مَنْ تَعوَّدُوا وجود النعمة وأَلِفُوها؛ فهم تحت تأثير هذا الإِلْفِ وهذهِ العادةِ قد ينسون قدرها؛ لأنها دائماً حاضرةٌ بين أيديهم، فينسون شكرها، ونعمة الماء لو فقدت ولو لزمن يسير، حينها يعلم العبد عظيم فضل الله عليه، وأن فقدها جسيم، قال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30]، كذلك عذوبة الماء نعمة فلو كان مِلحاً أُجاجاً؛ فمن يستسيغه وينتفع به، قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ﴾ [الواقعة: 69 ، 70]. فهي نعمة تستوجب شكر الله وحمده.

ونعمة الماء من النعيم الذي يسأل عنه العبد يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]، ولقد كان صلى الله عليه وسلم حفياً بنعم الله يعظمها ويشكرها، فكان إذا أكل أو شرب قال:” الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى، وَسَوَّغَهُ، وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا.“؛ رواه أبو داود.

وشكر نعمة الماء لا يقتصر على الشكر باللسان، بل يتعداه إلى الشكر بالاقتصاد والترشيد في استعماله، فالإسراف تصرف سيءٌ وسلوك غيرُ حميدٍ، نهى عنه القرآن المجيد، ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]، وعن أنسٍ -رضيَ اللهُ عنه- قالَ: “ كانَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-يغتسلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمدادٍ، ويتوضَّأُ بالمُدِّ “، والمُدُّ مِلءُ اليدين المُتوسطتين، وإذا كان الاقتصاد في استعمال الماء في العبادة مطلوباً فالاقتصاد في غير العبادة أولى وأحرى.

والإسلام دِينُ رقي وحضارة ينأى بمصادر المياه عن كل ما يكدر صفاءها، ويلوث نقاءها، فنهى عن البول في الماء، قال عليه الصلاة والسلام:” لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ؛ رواه البخاري ومسلم، وعن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ “؛ رواه مسلم.ولأن في ذلك تنجيساً للماء وإيذاء لمستعمليه، فكل سلوك ينتج عنه تلوث المياه أو إهدارها هو إيذاءٌ وضررٌ منهي عنه في الإسلام.

عباد الله، إن المحافظة على نعمة الماء والتعاون مع الجهات المعنية في ذلك مطـلب شرعي، ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾، فمن المهم الأخذ بالوسائل التي تعين على حفظ المياه ومصادرها من الهدر والضياع، والاستعانة بتقنية الترشيد في البيوت والمزارع والمؤسسات، والاستفادة من المياه المسـتخدمة في الوضوء ونحوه في سقي المزروعات والمسطحات، فذلك خير من إهـدارها.

أقول قولي هذا قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، وادعوه يستجب لكم، إنه هو البر الكريم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، وبعد، فلنتق الله – عباد الله – ولا ننسَ قدر هذه النعمة الجليلة؛ لأن دوام الحال من المحال ، فحافظوا على نعمة الماء، فإن فقدها إرهاق وعناء، وغورها إزهاق للحياة وشقاء، وأديموا الشكر على جميع النعم لرب الأرض والسماء.

اللهم اسقنا ربنا من فيضك المدرار، واجعلنا من الذاكرين لك بالليل والنهار، المستغفرين بالعشي والأسحار.

اللهم أنزل علينا من بركاتك وأخرج لنا من خيرات الأرض وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم احفظ بلادنا، وحدودنا، وانصر جنودنا، ووفق ولاة أمرنا، وأيدهم بتأييدك، وارفع عنا البلاء والوباء يا سميع الدعاء.