وصايا مع إطلالة العام الدراسي الجديد
الحمد لله العليم الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم، نحمده حمداً يليق بجلال وجهه، وعظيم سلطانه، أنشأنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، وأطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، ومن كل فضلٍ وخيرٍ سألناه أعطانا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282].
ويبدأ عام من الخير جديد، وهو العام الدراسي، إذ يعود الطلاب إلى مقاعد الدراسة في المدارس والمعاهد والجامعات، والعود أحمد – إن شاء الله -، والمرجوُّ من الله تعالى أن يكون عام خير وبركة، ويرزق الجميع العلم النافع والعمل الصالح.
العام الدراسي الجديد يشكل مرحلةً عُمُريَّةً مهمة لكل طالب وطالبة، فالكلُّ يعيشه بعزم الاستفادة منه تحصيلاً علمياً وتربوياً، ليتأهل الطالب بعده إلى مراحلَ متقدمةٍ من التعليم، يترقى في خدمة دينه ووطنه ومجتمعه.
العام الدراسي الجديد بداية تسرُّ الناظرين، في طريقٍ نهايته العِزُّ والرِّفْعةُ، وعاقبته نجاح الدنيا وفوز الآخرة: “ومَن سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه عِلْمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنةِ“؛ رواه مسلم.
العام الدراسي الجديد يعني الجميع آباء وأمهات ومجتمع، فالتعليم له أهمية بالغة في حياة الأمم؛ لما يعول على مخرجاته في بناء الوطن وعزه، ورفع الجهل ودحره.
ولا بد أن يُصحب العزم بالتخطيط لمراحل العام الدراسي من أول يوم، بحيث يسير الطالب بخطىً متواصلةٍ يوماً بيوم، وحصة بحصة، فلا مجال للتهاون والكسل، وهذا التخطيط مسؤوليةٌ مشتركةٌ بين المدرسة والبيت، والمعلمين وأولياء الأمور، فالكلُّ له جانبٌ من المسؤولية؛ وللوالدين النصيب الأكبر، كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، قال علي رضي الله: ﴿ قُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ :”علِّمُوهم وأدِّبُوهم”؛ رواه الحاكم وصحَّحه، وعن الضحاك ومقاتل -رحمهما الله- قالا: “حقٌّ على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه”؛ (ابن كثير 8/167).
الوالدان مربيان مؤثران؛ قال النبي ﷺ: ” كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ فأبَوَاهُ يهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه”، وقال ﷺ: ” مُرُوا أولادَكم بالصلاةِ لسَبْعٍ واضربوهم عليها لعَشْرٍ”.
ويَنْشأ ناشئُ الفتيانِ مِنَّا *** على ما كانَ عوَّدَه أبُوه
وما دان الفتى بحجًى ولكن *** يُعوِّده التديَّنُ أقْرَبُوه
والجميع مطالبون بتربية النشء كما كانت تربية الجيل الأول، فعن سعد بن أبي وقَّاص – رضي الله عنه – أنه قال: ” كُنَّا نُعلِّم أولادَنا مغازي رسول الله ﷺ كما نُعلِّمهم السورة من القرآن”.
ولي أمر الطالب والطالبة هو العامل الناهض المساعد للمعلم والمدرسة، ودوره كبير ومؤثر في غرس العلم، وتقدير المعلم، والتعاون معه، وتعليم الأبناء الأدبَ قبل أن يجلسوا في مجالس العلم والطلب.
وها قد عدتم -معشر الطلبة- إلى مقاعد الدراسة، فجدِّدُوا النية وأخلصوها، واستحضروا تقوى الله تعالى، واعلموا أن الأدب مفتاح العلم:
لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَه *** ما لم يُتَوجَّ ربُّه بخلاقِ
ومن لم يتحمَّل ذُلَّ التعلُّمِ ساعةً، بقي في ذُلِّ الجهل أبدًا، ومن لم تكن له بداية مُحْرِقة لم تكن له نهاية مُشْرِقة.
المعلم هو الذي عليه المعوَّل -بعد الله- في تكوين الطالب، وقد كان هذا المعلم محل تقدير الإسلام؛ فهو الأب الروحي لتلاميذه، وجديرٌ بالمعلم أن ينال هذا التقدير من المجتمع والأسرة؛ فإنه لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه، وكما قال الشاعر:
قم للمعلم وفِّه التبجيلا *** كاد المعلمُ أن يكون رسولا.
معشر المعلمين والمربين، مهنتكم من أعزِّ المِهَنِ، فهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، فجمِّلُوا هذه المهنة بالإخلاص، والجد، وأداء الأمانة، وتحقيق العدل، وأتْبِعُوا القول بالعمل.
وأهم ما ينبغي الحرص عليه، هو التربية الخُلقية والسلوكية، والتي تُكتسب من القدوة الصالحة قبل التلقين والتعليم، لأن الطالب يتأثر ويقتدي بالسلوك قبل أن يسمع المعلومة.
هذه التربية السلوكية ينبغي أن تكون حاضرةً في البيت والمدرسة بكل تفاصيلها، فقد كان المعلم الأول ﷺ، معلماً بسلوكه كما كان معلماً بهديه؛ فكان «خلقه القرآن»، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كان يتمثل القرآن في هديه الأخلاقي الذي هو ربع آيات الكتاب العزيز تقريباً، وطبقه عليه الصلاة والسلام واقعاً عملياً بين الناس، في سلوكه ومعاملاته ودعوته…
وأهم ما في التربية السلوكية غرس مفاهيم الولاء لله ورسوله وللمؤمنين، والسمع والطاعة لولي الأمر في المعروف، والانتماء للوطن، والمحافظة على ثقافة الوطن ومقدراته، حتى تكون هذه المعاني سلوكياتٍ حاضرةً لا تحتاج لتلقين، ولا اختبار.
ولما غابت هذه المعاني في دول ومجتمعات أخرى رأينا في واقعهم خراب الأوطان، وانتشار الجرائم، وإهدار الطاقات، فلم يمكن ترقيع تلك الخروق الواسعة.
نسأل الله العلمَ النافعَ والعملَ الصالح، اللهم عَلِّمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا وعملًا يارب العالمين.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهَدْي سيِّد المرسلين، وأقولُ قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتفقَّهوا في دينكم، واقتدوا بالمعلم الأول ﷺ في تعليمه، وتربيته، وفي أخلاقه، وحَرِيٌّ بالمعلمين والمربين، اقتفاء أثره والاهتداء بهديه؛ ففيه الخير كل الخير.
وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيِّكم محمد رسول الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال في مُحْكَمِ تنزيله، وهو الصادق في قيله ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك، محمد الرسول المصطفى، والنبي المجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن بقية العشرة، وأصحاب الشجرة، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهم أمِّنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفِّق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، اللهم أعذنا من الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن.