وقفة بين عامين
الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال، ومقادير للأعمار، أحمده سبحانه وأشكُره على عظيم آلائه، والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الواحد القهار، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي المُصطفى المُختار، صلى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].
عباد الله، نودِّع العام الهجري بما مضى فيه من خيرٍ وعمل صالح، لا يضيع عند الله جلَّ شأنه، وما مضى فيه من مآسٍ وأفراح وأتراح، ونودع العام الهجري بشكر الله تعالى على أن عافانا وآوانا وجعلنا مسلمين، ونشكُره على نعمه الظاهرة والباطنة التي لا تُحصى، نشكره لنستجلب المزيد من الفضل الإلهي، والعطاء الرباني الذي لا تنفَد خزائنُه، فإنه سبحانه يجزي الشاكرين بل يزيدهم.
نودِّع العام مستشعرين تقصيرنا فيما مضى من عُمرٍ؛ إذْ لم نستغله استغلالًا يرضي به ربنا عنا، ولم نؤدِّ جزيل الشكر له سبحانه بتسخير ما منَّ به علينا من نِعمٍ لما خُلقت لأجله، ليكون هذا الشعور حافزًا على المزيد من العمل الصالح الذي يرضيه جل شأنُه، فإنه مهما عملنا فإننا مقصِّرون مفرِّطون في جنب الله تعالى، وهذا الوجَل يسوقنا إلى أن نستدرك ما قصَّرنا فيه، فنتلافاه في عامنا الذي حلَّ علينا، فنتدارك فيه تقصيرنا، فنعبده حق عبادته، بأسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وكل جوارحنا الظاهرة والباطنة؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]، ونعزم أن يكون عامُنا الجديد خيرًا مما مضى، ومزرعةً للآخرة، مشمرين عن ساعد الجد لما أمرنا الله تعالى من معرفته، وتحقيق توحيده، ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات ﴾ [محمد: 19]، ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، والمؤمن الحق يتبع الإيمان بالعمل الصالح؛ ليتحقق موعود الله القائل: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
إنَّ تجدُّد السنين والأعوام علينا إنما هي مسافات السفر التي نسير فيها إلى المنتهى الذي قدَّره الله لنا، فمِنَّا الواصل قريبًا، ومنا البعيد، لكنه سيصل لا محالة: ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾ [النجم: 42]، فمحطة الوصول الأخيرة في مسافة السير هي التي يجب أن نعدَّ لها عدتها؛ لأنها دار المُقامة، ﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 35]، دار الإقامة التي لا نقلة معها عنها ولا تحوُّل، فلا عناء ولا تعب ولا إعياء، فمن تزوَّد لدار المقامة عاش في تلك الدار عيشة راضية، ومن أهمل التزود لها كانت خسارته غير متناهية، ﴿ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 6 – 11]، ولذلك أمرنا الله تعالى بالتزود لهذه الدار بصالح الأعمال ما دمنا متمتعين بالأعمار، فإن ذهبت عنا غُبِنَّا غبنًا فاحشًا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ»؛ رواه البخاري.
والعاقل مَنْ يسعى إلى ألا يكون من الكثير المغبون، بل من القليل العامر لعُمره فيما يرضي ربَّه، حتى لا يكون من الخاسرين: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3]، نسأل الله تعالى طول العمر وحسن العمل، والاستدراك قبل حلول الأجل، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى، واستِهلوا العام الهجري الجديد بتدبر معاني حدث الهجرة الميمون، وإنه لحَدَثٌ لو تعلمون عظيم، أسفَرَ عن التمكين المكين لهذا الدين المتين، وأعز الله رسوله ومن معه من المؤمنين، فقامت دولتهم وعزَّ شأنهم؛ لأنهم آثروا الله ورسوله على كل شيء، فاستلهموا عِبرها ودروسها، وابتدِروا – أيها المسلمون – غُرةَ شهور العام بالصيام؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم»؛ أخرجه مسلم. واحتسِبوا فيه يومًا عظيمَ الفضل والآلاء، ألا وهو يوم عاشوراء، فقد قال نبيكم صلى الله عليه وسلم: «صيام يوم عاشوراء أحتسِبُ على الله أن يُكفر السنة التي قبله»؛ رواه مسلم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم محمد بن عبدالله امتثالًا لقول ربكم جل في علاه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهُم صلِّ وسلِّم، وزِدْ وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والشفيع المُشفع يوم المحشر، الذي شُق له القمر، وسلَّم عليه الحجر والشجر، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة وأصحاب الشجرة، وعن سائر أصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، اللهم آمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تُحب ويرضى، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ثبِّتنا على دينك وتُبْ علينا، إنك أنت التواب الرحيم، اللهم فرِّج همومنا، واقض ديوننا، واشفِ مرضانا، وارحَم موتانا وموتى المسلمين يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.