يوم الفرقان وتاج رمضان (خطبة)
يوم الفرقان وتاج رمضان 1440هـ
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
معاشر المؤمنين، يومُ الجُمعة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهِجرة، يومٌ عظيمٌ في الإسلام، ويوم من أيام الله تعالى سمَّاه في كتابه يوم الفرقان، فقال سبحانه: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41].
وقال عنه عليه الصلاة والسلام: “اللهم إن تَهلِك هذه العِصابةُ – أي: الجماعة من أهل الإسلام – لا تُعبَد في الأرض”؛ رواه مسلم.
قال القرطبي رحمه الله: “وعلى ذلك اليوم ابتُنِيَ الإسلام”.
غزوة بدر هي الغزوة الخامسة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأول غزوة لرسول الله يقع فيها قتال، وأول غزوة يُشارك فيها الأنصار رضي الله عنهم، شارك فيها جبريل وألف من الملائكة مردفين عليهم السلام.
ومن فضلها وبركتها أن مَنْ شهدها يُنسب إليها، فيُقال: فلان البدري، أو شهد بدرًا، وهل هناك فضل أجلُ وأعظمُ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك وما يدريك؟ لعل الله أن يكون قد اطَّلَع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرتُ لكم)؛ متفق عليه.
هي أعظم غزوة في تاريخ الإسلام، وصرَّح الله سبحانه بذكرها في القرآن، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123].
قال الحافظ ابن عبدالبر: كانت أشرف غزواته صلى الله عليه وسلم، وأعظمها حرمةً عند الله، وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند المسلمين، وليس في غزواته صلى الله عليه وسلم ما يعدل بها في الفضل؛ ا. هـ.
وفي هذه الغزوة وقع أول غنائم في الإسلام، وأول أسرى في الإسلام، وقُتل فيها سادة الكُفر وصناديد الطغيان؛ كأبي جهل وعتبة بن ربيعة وغيرهما.
عباد الله، إن غزوة بدر تبين بجلاء عن دروس وعبر من مجد التاريخ الإسلامي العظيم:
وأعظمها أن العقيدة الإسلامية تقوم على الولاء والبراء والحب في الله، والبغض في الله، ولو كان أقرب قريب، فمعاقد الولاء والبراء على الإيمان لا على العرق والقبيلة واللون والإقليم، ففي بدر قاتل النبي صلى الله عليه وسلم قومه وعشيرته.
ومن دروس وعبر هذه الغزوة المباركة أن النصر بيد الله وحده: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 126]، ولو كان النصر بالعَدد والعُدة لانتصر كفار قريش؛ لأنهم أضعاف الـمسلمين في العَدد والعُدة.
تُعَيِّرُنا أَنّا قَليلٌ عَديدُنا فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ وَما ضَرَّنا أَنّا قَليلٌ وَجارُنا عَزيزٌ وَجارُ الأَكثَرينَ ذَليلُ |
ومن دروس غزوة بدر بعث التفاؤل بأن هذه الأمة منصورة ما نصرت دينها: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: 47]، ومن دروسها أن الجهاد في سبيل الله من أفضل الأعمال، وهو ذروة سنام الدين، لما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله، ونصر دينه، والذود عن حياض الأمة وقمع الظالمين وردع المعتدين، قال تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39].
ودور الشباب كبير في نصرة الدين، فمعاذ بن عمرو بن الجموح ومعوِّذ بن عفراء شابان صغيران، قتَلا فرعون هذه الأمة أبا جهل، وأجهَز عليه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فقال الطاغية المتأصل الكبر في نفسه: “لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُويعي الغنم”.
ولكنه الإسلام أحبط مناهج الجاهلية وعبيتها وفخرها بالأنساب؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
ومن دروسها العظيمة: التوكل على الله تعالى، وفعل الأسباب، وصدق اللجأ إليه من أسباب استجلاب النصر والظفر؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال: 9].
فالدعاء سلاح المؤمن، ومن أعظم أسباب النصر على الأعداء، وفي شهر مثل هذا رُفعت تلك الدعوات الضارعة، وعلت الأيدي المباركة من أعظم البشر محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول: “اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبَد في الأرض”، والتضرع والإلحاح وحضور القلب في الدعاء من أسباب قبوله وإجابته؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن دروس بدر أن الرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا الأنبياء وحي من الله، وهي بشرى لأهل الإيمان؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ﴾ [الأنفال: 43].
ومن دروسها فضل من شهد بدرًا، وأن أهلها مغفور لهم، وأن حبهم قربة نتقرَّب بها إلى الله، ويكفيهم قوله صلى الله عليه وسلم عنهم: “إنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ”؛ قال ابن حجر: “وهي بشارة عظيمة لم تقع لغيرهم”، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأنه لولا أهل بدر لم يصلنا الإسلام، ولقضي عليه معهم.
وفيه فضيلة الصحابة وثباتهم واستجابتهم لله ولرسوله، فالصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يسره قبل المعركة.
ومن دروسها أن الله تعالى يقدِّر الأمور وييسِّرها من غير ترتيب مُسبق بين المؤمنين وأعدائهم، وهذا كله من أجل نصرة دينه وخِذلان أعدائه بالقتل والهزيمة، ويظهر الايمان ويتميز الصادق: ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 42].
كان عدد المسلمين فيها ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، وليس معهم إلا سبعون بعيرًا، وفرسان ولم يخرجوا في الأصل للقتال، وإنما للاستيلاء على عير قريش القادمة من الشام.
ونزلت سورة الأنفال في أعقاب غزوة بدر يوم الفرقان، وكانت تُقرأ على الصحابة في المعارك لرفع معنوياتهم في القتال.
جاءت سورة الأنفال تتحدث عن هذه الغزوة المباركة، وما فيها من الدروس والعبر، فحري بالمؤمن وهو في شهر القرآن أن يتدبرها، ويتأملها، ويعتبر بما فيها من آيات عظيمة.
وستظل معركة بدر الكبرى مَعلَمًا بارزًا، ودستورًا منيرًا للدعاة والمصلحين، ولهذه الأمة في معاركها مع الباطل والظلم والطغيان، وقد قوِيتْ دولة المسلمين بهذا النصر الذي حقَّقوه بقوة الإيمان، ثم بحُسن الإعداد والتخطيط، رغم أنهم كانوا أقل من عدوهم في العدد والعدة؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آل عمران: 123].
اللهم ارزقنا مفاتيحَ النصر وإجابة الدعاء، وانصُر إخوتنا المستضعفين في كل مكان، اللهم كما نصرتَ المؤمنين انصر إخواننا المجاهدين والمرابطين في الحدود والثغور، وفي اليمن وبورما وكل مكان.
الخطبة الثانية
عباد الله، العشر الأواخر هي خاتمة رمضان وتاجه، وهي سوق عظيم يتنافس فيه الصالحون ويجتهد فيها العابدون اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد (كان يجتهد في العشر الآواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها)، و(كان إذا دخل العشر شد مِئزرَه، وأحيا ليله، وأيقظ أهله)؛ متفق عليه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله؛ متفق عليه.
والمسلم يحرص على إحسان الخواتيم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بخواتيمها)؛ متفق عليه، فمن قصَّر في العشرين الأولى من رمضان فليَستدرك، ومن أحسن فليُتم إحسانه، وليسأل الله القبولَ.