قيمة الأمن ومقوماته
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونشكره أمننا من بعد خوف، وأغنانا من بعد عيلة، وعلمنا من بعد جهل، وألبسنا لباس الصحة والعافية، ومن كل خير وفضل أمدنا وأعطانا، والصلاة والسلام على نبينا محمد عبده ورسوله وأمينه على وحيه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- (حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: يقول تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إبراهيم: 34]، فنعم الله على الخلق كثيرة لا تحصى، وأعظم النعم بعد الإيمان بالله وتوحيده: نعمة الأمن الوارف، والعيش الرغيد، والأمن لغة: طمأنينة القلب، وسكينة النفس، وزوال الخوف.
والأمن كنز ثمين، به تحفظ الأنفس، وتصان الأعراض والأموال، وتأمن السبل، وتقام الحدود، وبدونه لا يهنأ عيش ولا يتحقق ازدهار، ولذلك جاءت دعوة الخليل -عليه السلام- مؤكدة على ذلك: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)[البقرة: 126].
والأمن يمنح الحياة قيمتها، ويحفظ سلامتها، ولا تتحقق مطالب الحياة إلا بتوافر الأمن، فمعه تنبسط الآمال، وتطمئن النفوس، وتقوم المصالح الدينية والدنيوية، وإذا غاب الأمن شاعت الفوضى، وساد قانون الغاب، وتسلط اللصوص والأوباش، وتوقفت حركة الحياة النابضة المتطلعة إلى التقدم والبناء.
هذه قيمة الأمن، وله مقومات فمن مقوماته: إخلاص الدين لله، واجتناب الشرك؛ فالأمن ثمرة التوحيد، وثوابٌ من ثوابه، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)[الأنعام: 82].
والأمن والإيمان قرينان، فلا يتحقَّق الأمن إلا بالإيمان، والعبادة: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3-4].
إِذَا الإِيمَانُ ضَاعَ فَلاَ أَمَانٌ *** وَلاَ دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْيِ دِينَا
وَمَنْ رَضِيَ الحَيَاةَ بِغَيْرِ دِينٍ *** فَقَدْ جَعَلَ الفَنَاءَ لَهَا قَرِينَا
ومن مقومات الأمن: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو سبب الخيرية، وبتركه تحل العقوبات، ويختل الأمن، دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على زينب بنت جحش -رضي الله عنها- وهو يقول: “ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج” قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم، إذا كثر الخبث”.
ومن مقومات الأمن: الاستقرار السياسي فهو من أهم عناصر استتباب الأمن، والدول التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي تكثر فيها القلاقل والفتن؛ ومن هنا اهتمت شريعة الإسلام بذلك فأمرت بالسمع والطاعة لولاة الأمر في المعروف، وترك منازعتهم، والاختلاف عليهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء: 59]، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر بالجماعة، وينهى عن الفُرقة، فالواجب على المسلمين التَّمسك بالجماعة، والتَّباعد عن الفُرقة، والحذر من أسبابها، ومَن زجَّ نفسه في ذلك فقد سار في مركب الجاهلية، قال صلى الله عليه وسلم: “مَن خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات فميتتُه ميتة جاهلية”(رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: “من أتاكم وأمرُكُم جَمِيْعٌ على رجل واحد، يُريد أن يَشُقَّ عَصَاكُم، أو يُفَرِّقَ جَمَاَعَتَكُم، فاقتُلُوهُ”(رواه مسلم)، فمن يريد تفريق كلمة المسلمين بعد اجتماعهم على خليفة واحد، ثم جاءهم من يريد أن يعزِلَ إمامَهم وجب عليهم وضع حد له ولو بقتله؛ دفعًا لشره، وحقنًا للدماء، وحفظاً للأمن.
ومن مقومات الأمن: خلق التعاوُن على البرِّ والتقوى، فهو أساسٌ عظيمٌ من أُسس بناءِ الأمنِ المجتمعي: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[المائدة: 2]، ومن أجل ما يبنى عليه أمن المجتمع: الأُخوة الإيمانية: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات: 10]، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)[التوبة: 71].
اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان، وارزقنا شكرها على الوجه الذي يرضيك عنا، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم…
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، واعلموا أن الشكر حافظ النعم، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، والنعم بشكرها تقر، وبكفرها تفر، وكلما فرط الناس في جنب الله وضيعوا حدوده كلما شعروا بنقص نعمة الله عليهم، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112].
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا ونائبه لكل خير.
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، واشف مرضانا وارحم موتانا وموتى المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.