مَن تُصاحِب؟

مَن تُصاحِب؟ ( خطبة للشيخ محمد السبر)

الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا صمدًا، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، خيرُ مَن عَظَّم الله أقوالًا وفِعالًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلِّم تسليمًا مزيدًا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، عباد الله، إن الله أوصانا بوصايا، وحثَّنا على أمور، ولا يأمر الربُّ الحكيمُ العليمُ بشيءٍ إلا وفيه مصلحة عظيمة، ومن أوامره تعالى، الأمر بصحبة الأخيار وملازمتهم، والنهي عن صحبة الأشرار: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].

​إن فطرة الإنسان وطبيعته تحتاج إلى صاحب يألفه ويأنس به، والنفس تؤثر وتتأثَّر سلبًا وإيجابًا، والناس على اختلاف، فمِن مُقِلٍّ ومُكثرٍ، والمرء مدني بطبعه، وهذا يسترعي الانتباه لأهمية إنشاء العلاقات الجديدة، وتنقية العلاقات القديمة وتمحيصها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المَرْءُ على دِينِ خليلِه فليَنْظُرْ أحدُكم مَنْ يُخالِل))؛ أخرجه أبو داود والترمذي، وقال بعضهم: انظروا إلى فِرعون مع هامان، أضلَّ هذا بهذا، وأخذ هذا من عِزَّة هذا، وأعان بعضُهم بعضًا على الكُفْر والاستبداد، فللجليس تأثيرٌ على الدِّين والسلوك، والمرء يُعرَف بجليسه:

عنِ المَرْءِ لا تَسَلْ وسَلْ عن قرينِه  فكُلُّ قرينٍ بالمقارنِ يقتدي 

وجليسُ الخير مفيدٌ دائمًا وأبدًا، مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما مثلُ الجليسِ الصالحِ، والجليسِ السوء، كحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فحامِلُ المِسْكِ إمَّا أن يُحذيك، وإمَّا أن تَبتاع منه، وإمَّا أن تجِدَ منه رِيحًا طيبةً، ونافِخُ الكِير إمَّا أن يُحرق ثيابَكَ، وإمَّا أن تجِدَ منه ريحًا خبيثةً((؛ متفق عليه، وفي هذا الحديث “فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمعروف، ومكارم الأخلاق، والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشَّرِّ، وأهل البدع، ومن يغتابُ الناس، أو يكثُرُ فُجْرهُ وبطالته، ونحو ذلك من الأعمال المذمومة”؛ شرح مسلم للنووي 16 /178.

إن مصاحبة الأخيار نجاة من فزع يوم القيامة، ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [الزخرف: 67، 68]، فصداقة التقوى ممتدة إلى ما بعد الموت، فلا تنفصم عُراها ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾، وتتجلَّى الصداقة على حقيقتها، ويبرز أثرها، في الموقف يوم القيامة؛ فيبحثون عن مُعينٍ أو نصيرٍ، قال بعض السلف: لقد عظمت منزلة الصديق عند أهل النار، قال تعالى: ﴿ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴾ [الشعراء: 100، 101]، فأصحاب السوء والباطل يتبرَّأ بعضُهم من بعضهم، ويلعن بعضهم بعضًا يوم القيامة، ويقول الواحد منهم يوم القيامة: ﴿ يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾ [الفرقان: 28، 29]، والتأمل في ندامة الظالم يوجب على العاقل التحرِّي في اصطفاء الصديق؛ فالإنسان محاسَب على ذلك.

الصحبةُ الصالحةُ سببٌ لمحبة الله تعالى كما في الحديث القدسي: ((وجَبَتْ مَحَبَّتي للمتحابِّين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتبادلين فيَّ))؛ رواه مالك.

الصحبة الصالحة ينتفع بدعائهم بظهر الغيب في الحياة وبعد الممات، قال صلى الله عليه وسلم: ((دعوةُ المرءِ المسلمِ لأخيه بظَهْرِ الغيبِ مستجابةٌ، عند رأسه مَلَك موكل، كُلَّما دعا لأخيه بخيرٍ قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل))؛ رواه مسلم.

الصحبةُ الصالحةُ مجالستُهم بركةٌ وتنالهم الرحمةُ، وفي فضل مجالس الذكر ((يقول الله تعالى: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يا رب، إن فيهم فلانًا ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقول الله: هم القوم لا يشقى بهم جليسُهم))؛ [متفق عليه].

قومٌ يذكرون الله فيُناديهم المنادي من السماء: ((قوموا مغفورًا لكم))، فما أعظمَ النعمةَ! وما أجَلَّ هذه المِنَّةَ!

الصحبةُ الصالحةُ نعمةٌ عظيمةٌ، عرَفها السَّلفُ الصالحون حقَّ قدرها، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: “لولا ثلاث ما أحببتُ البقاء ساعةً: ظمأ الهواجر، والسجود في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام، كما ينتقى أطايب الثمر”، وقال الشافعي رحمه الله: “لولا القيام بالأسحار، وصحبة الأخيار، ما اخترتُ البقاء في هذه الدار”، وكانوا إذا فقدوا أخًا عزيزًا عُرِف ذلك فيهم، قال أيوب السختياني رحمه الله: “إذا بلغني موتُ أخٍ لي فكأنما سقط عُضْوٌ مني”، والرجل بلا إخوانٍ كاليمينِ بلا شمالٍ.

أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ مَنْ لا أَخًا لَه كساعٍ الى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ 

ومصاحبة الصادقين تقوى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، فقد ربط الله الصدق بالتقوى، فالصادقون أقربُ لخشية الله من أهل الكذب، والصدق معيار مُهِمٌّ للرفقة؛ فالكذاب ليس حريًّا أن يكون صاحبًا ولا صديقًا، وصدق القائل:

وَدَعِ الكَذوبَ فَلا يَكُن لَكَ صاحِبًا إنَّ الكذوبَ يُشينُ حُرًّا يَصحَبُ يَسقيكَ مِنْ طَرَفِ اللِّسانِ حلاوةً ويَرُوغُ مِنْكَ كما يَرُوغُ الثعلبُ 

وإذا أردت أن تعرف قيمة الإنسان، ومقياس شخصيته، فانظر مَن يصاحب، وتأمَّل فيمن يُصادِق، وكما قال القائل:

أنت في الناسِ تُقاس بالذي اخترْتَ خَليلا فاصحَبِ الأخيارَ تَعْلو وتَنَلْ ذِكْرًا جَميلا 

الصاحب الصالح يُقرِّبُك مِن ربِّك، ويُذكِّرُك إذا نسيت، ويُقوِّي هِمَّتَك إذا ضعفت، ويحفظك في الغيب، فاخْتَرْ في طريقك صاحبًا ناصحًا مُخْلِصًا، يُعينك على الطاعة، وأكثر من صُحبةِ أهل المروءة ومكارِمِ الأخلاق والوَرَع والعلم والأدب، وحذارِ حذارِ من صحبة السوء والهوى فهم يدلون على الفساد، ويسيرون في طريق الهلاك.

ولا تَجْلِسْ إلى أهْلِ الدَّنايا فإنَّ خلائق السُّفهاءِ تعدي 

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].

اللهم وفِّقنا لصحبة الأخيار، ومجانبة الأشرار، اللهم نسألك عيشة السعداء، وميتة الشهداء، ومرافقة الأنبياء، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد:

فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى، واعلموا أن المرء مع مَنْ أَحَبَّ، والمتحابُّون في الله يُظِلُّهم الله في ظِلِّه يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّه، والمؤمن مرآةُ أخيه إن رأى فيه ما يكره سدَّدَه وقوَّمَه، وحاطَه بحفظه في السِّرِّ والعَلَنِ، ودعا له بظَهْر الغيبِ، فاصْحَب مَن يُنْهِضُك حالُه، ويدلُّك على الله مقالُه، وتُذكِّرُك بالله رؤيتُه.

واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّم على النبي المصطفى المختار، وصَلِّ على الآل الأطهار، والمهاجرين والأنصار وجميع الصَّحْب الأخيار، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرْكَ والمُشركين، ودمِّر أعداء الدِّين يا رب العالمين، اللهُمَّ وَفِّق وليَّ أمْرِنا ووليَّ عَهْدِه لما تُحِبُّ وتَرْضَى، وخُذْ بناصيتهما للبِرِّ والتقوى، اللهُمَّ انْصُر جنودَنا المُرابطين، ورُدَّهم سالمين ظافرين.

عباد الله، إنَّ الله يأمُرُ بالعَدْل والإحسان وإيتاء ذي القُرْبى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يَعِظُكم لعلَّكم تذكَّرون؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكُرْكم، واشكُرُوه على نِعَمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ الله أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/158602/%D9%85%D9%86-%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AD%D8%A8%D8%9F-%D8%AE%D8%B7%D8%A8%D8%A9/#ixzz7qsOC127i