أوْلُ جُمْعَةٍ في ذِي القَعْدَةِ

أوْلُ جُمْعَةٍ في ذِي القَعْدَةِ ([1])

الْحَمْدُ للهِ، الذِي فَضَلَ الشُهورَ بعْضَهَا عَلى بَعْضْ، أحْمَدُهُ وأشكُرُهُ عَلى إنِعَامِهِ المَحْضِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، بيدهِ الخَلْقُ والأمرُ، والإحِكَامُ والنَقْضُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، عَظيمُ القَدْرِ والفَضْلِ، صلَّى اللهُ وسلَمَ وبَارَكَ عَليهِ وعَلى آلِهِ وأصحَابِهِ، وسْلَّمَ تَسْليمًا كَثِيرَاً.

أمَّا بَعدُ: فاتَّقوا اللَّهَ -مَعَاشِرَ المُؤمِنينَ-، وأعْلَموا أنَّكُم فِي شَهْرِ َذِي الْقَعْدَةِ([2])، وهو أحْدُ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: ﴿إنَّ عِدَّة الشُهورِ عندَ اللَّهِ اثنا عشرَ شهرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ منها أربَعةٌ حُرُمٌ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، ([3]) فهوَ شَهْرٌ حَرَامٌ بِحُرمَةِ اللهِ تَعَالى؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:«السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ‏ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ‏ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ». ‏متفقٌ عَليهِ. ([4])

وسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَقْعُدُ فِيهِ عَنِ الْغَزْوِ، والقِتَالِ، حَتَّى يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَجْهِيزِ أَنْفُسِهِمْ للْحَجِّ.

وكَانَ العرَبُ فِي الجَاهليةِ يُعظّمونَ الأشْهرَ الحُرمَ، ويُحَرِّمُونَ القتالَ فيهَا، فَلا يُروِّعونَ فيهَا نفْسًا ولا يَطلبُونَ ثأراً، يقولُ ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: «كانَ الرَجُلُ يلقَى قاتلَ أبيهِ فِي الأشهُرِ الحُرمِ فلا يمُدُّ إليهِ يدَهُ» ([5]).

ووقعتْ فِي ذِي القَعْدةِ أحدَاثٌ عَظِيمَةٌ؛ ففيهِ كَانَ صُلحُ الحُديبيةِ سنَةَ سَتٍ مِنْ الهِجرَةِ، وقدْ سَمَّاهُ اللهُ فتحًا مُبينًا! ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾.([6]) قالُ عُمرُ -رَضِي اللهُ عنهُ-: أوَ فتحٌ هوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قالَ: نَعَم. ([7])

وَهُوَ ثَانِي أَشْهُرِ الْحَجِّ المعْلومَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾. ([8]) ‏قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي اللهُ عنهُمَا-: “هيَ: شَوَّالُ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ” ([9])، وهي مواقيتُ الحَجِ الزمانيةِ، قالَ ابنُ عبَاسٍ -رضي اللهُ عنهُمَا-: ” مِنَ السُّنَّةِ ألَّا يُحْرِمَ بالحَجِّ إلَّا في أشهُرِهِ” ([10]).

لقدْ تفضلَ اللهُ عَلى عِبادَهِ بفضائلِ الأزمنةِ والأوْقاتِ ليعمروهَا بمَا شرَعَ مِنْ الطاعَاتِ؛ فالعُمرةُ في ذِي القَعْدَةِ مشروعَةٌ، ولهَا فَضِيلَةُ؛ فقدْ اعْتمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أربَعَ مَرَاتٍ، كُلُّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ؛ ” وهذا يَدُلُ عَلى أنَّ العُمرةَ في أشهُرِ الحَجِّ لهَا مَزيَةٌ وفضْلٌ؛ لاختيارِ النبيِّ ﷺ هذِهِ الأشهرَ لهَا” ([11])، وقدْ فَضَّلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ عُمْرَةَ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى عُمْرَةِ رَمَضَانَ.

وَقدْ نَهى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ظُلمِ النفسِ في الأشهُرِ الحُرمِ، تشريفاً لَهَا؛ فقالَ: ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾، ([12]) قَالَ قتادةُ: إنَّ الظُلمَ فِي الأشهرِ الحُرمِ أعْظمُ خَطيئةً ووِزْرًا مِنْ الظُلمِ فيمَا سِوَاهَا، وإنْ كَانَ الظُلمُ عَلى كُلِ حَالٍ عظيمًا، ولكنَّ اللهَ يُعظِّمُ مِنْ أمْرِهِ مَا يَشَاءُ” ([13]).

قالَ العُلمَاءُ: ” إنَّ السيئَةَ تُعظمُ أحيَانًا بشرفِ الزمَانِ أو المَكَانِ، وقدْ تُضَاعفُ بشرفِ فاعِلهَا، وقوةِ مَعْرِفَتِهِ” ([14])

‏فظُلمُ النفسِ فيهَا آكدُ وأبْلغُ في الإثمِ مِنْ غيرِهَا، والظُلمُ والذنبُ فيهَا أعْظمُ مِنْ غيرِهِ؛ لشدةِ حرْمتهَا، وإذا عَظُمَتْ المَعصِيةُ فِي الأشهرِ الحُرمِ فَالطاعَةُ أعْظَمُ.

وتعظِيمُ هذِهِ الأشهُرِ يكونُ باجتنابِ الظُلمِ فِيهَا؛ وأعْظمُ الظلمِ الشرِكُ بِاللهِ تَعَالى ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ([15])، والبِدَعُ والمُحدثَاتِ.

وتعظيمُهَا بالتزَامِ حُدُودِ اللهِ تَعَالى فيهَا، وَعَدمِ تعدِيهَا، واجتنابِ مَحارَمِهِ.

وتعظيمُهَا مِنْ تعظيمِ شَعَائرِ اللهِ ودليلٌ عَلى تقواهُ؛ قَالَ تَعَالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ ([16])، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ ([17]).

‏ألا فَاتَّقوا اللَّهَ -عِبَادَ اللهِ- والتزمُوا حُدُودَهُ، وَأقيمُوا فرَائضَهُ، وَلا تغفلوا عَنْ مُراقبتِهِ، وبادِرُوا إلى إيقَاظِ قلوبِكُم بذِكْرِهِ وشكْرِهِ وحُسْنِ عبادتِهِ.

اللهُمَّ وفقنَا لاغتنَامِ أعمَارِنَا فيمَا يُقربنَا مِنْ رِضْوَانِكَ، وأسْبَابِ دُخولِ جِنَانِكَ، ويباعِدُنَا عَنْ غضبِكَ ونيرانِكَ.

أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، واسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم ولسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِرُوهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَحِيمُ.

الخُطبَةُ الثَّانيةُ:

الحمْدُ للَّهِ وكَفَى، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الذينَ اصْطَفَى، وَبَعدُ؛ فاتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التقوَى،وراقبوهُ فِي الأشهرِ عَامَةً، وفِي الأشْهُرِ الحُرُمِ خَاصَةً، واغتنِمُوا نفَائسَ الأوقَاتِ بأنواعِ الطَاعَاتِ، فمنْ ضيّعَ ساعَةً مِنْ عُمُرِهِ في غيرِ طَاعَةٍ، عَظُمتْ خَسَارتُهُ واشتدّتْ يَومَ القيامَةِ ندَامَتُهُ.

اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمينَ، واحْمِ حَوزَةَ الدِينَ، واجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطمئنًا وسائرَ بلادِ المسلمينَ.

اللهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرمينَ الشَريفينَ، ووليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

اللهُمَّ أعْذنَا مِنَ الشرورِ والفتنِ، مَا ظَهَرَ مِنهَا ومَا بَطنَ.


([1]) للشيخ محمد السبر، قناة التلغرام https://t.me/alsaberm

([2]) ذو القعدة بفتح القاف وكسرها، والفتح أفصح.

([3]) سورة التوبة:36.

([4]) رواه البخاري برقم (1654)، ومسلم برقم (1679).

([5]) تفسير ابن كثير (1/413).

([6]) سورة الفتح:1.

([7]) رواه البخاري برقم (4406)، ومسلم برقم (3441).

([8]) سورة البقرة :197.

([9])‏ رواه البخاري مُعلَّقًا بصيغةِ الجزم قبل حديث (١٥٦٠).

([10]) رواه البخاري مُعلَّقًا بصيغةِ الجزم قبل حديث (١٥٦٠).

([11]) فتاوى ابن عثيمين (21/٣79).

([12]) سورة التوبة:36.

([13]) تفسير الطبري (14/ 239)

([14])تطريز رياض الصالحين (17).

([15]) سورة لقمان:13.

([16]) سورة الحج:32.

([17]) سورة الحج:30.

تحميل المرفقات

إضغط هنا