خُطْبَةُ النَّجَاةُ مِنَ الفِتَن

خُطْبَةُ النَّجَاةُ مِنَ الفِتَن ([1])

الْحَمْدُ للهِ، الواحِدِ القهَّارِ، لا يَقْدُرُ أحدٌ قدرَهُ، أسْتَغْفِرُهُ وأتوبُ إليه كمْ أقَالَ مِنْ عثْرَةٍ، وغَفَرَ مِنْ زلةٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ شهادةً خالِصَةً مُخْلِصَة في السَرَاءِ والمَضرةِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، صلَّى اللهُ وسلَم وبارَكَ عليهِ وعَلى أصحَابِهِ الكرامِ وآلِهِ السادةِ البررةِ، والتَابِعِينَ لَهُم بإحْسَانٍ، ممنْ اجتنَبَ نهيَهُ واتبعَ أمرُهُ، وسْلَّمَ تَسْليمًا كَثِيرَاً.

أمَّا بَعدُ: فاتَّقوا اللَّهَ – مَعَاشِرَ المُؤمِنينَ-، وأعلموا أنَّ الدُنيا دَارُ ابتلاءٍ وامتحانٍ، ﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا وهْوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴾.

وكثرَةُ الفتنِ وظُهُورُها مِنْ عَلامَاتِ السَاعَةِ، ففي الصحيحِ أنَّ النبيَ ﷺ قَالَ:” يتقاربُ الزمانُ ويَقِلُ العملُ ويُلقى الشُحُ وتكثرُ ــ أو قالَ: تظهَرُ ــ الفتنُ“.

ومِنْ حِكَمِ الفتنِ: الابتلاءُ والتمحيصُ، كمَا قالَ تَعالى: ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وليحيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بينةٍ ويَهلِكَ مَنْ هلكَ عْنْ بَينَةٍ.

والفتنُ لهَا أسبابٌ منهَا: ضَعْفُ الإيمانِ، وازديادُ الشرِ بمرورِ الزمنِ مِنْ ذهابِ الصَالحينَ، وفَقْدِ العُلماءِ، ورَفعِ العِلمِ، وظُهورِ البدعِ، ولمَا شَكَا النَّاسُ إلى أنَسِ بنَ مَالِكٍ -رضي الله عنهُ- مَا يلقونَ مِنَ الحَجَّاجِ، قَالَ: «اصْبِرُوا؛ فإنَّهُ لا يَأْتي علَيْكُم زَمَانٌ إلَّا الذي بَعْدَهُ شَرٌّ منهُ، حتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ». رَوَاهُ البُخَارِيُ.

ولعَظِيمِ خطورةِ الفتنِ، فقدْ حذرَ الله تعالى مِنهَا؛ فقال: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. قال ابنُ كثيرٍ: ” هذه الآيةُ، وإنْ كَانَ المخاطبَ بِهَا هُم صحابةُ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ لكنَّهَا عامةٌ لكلِ مُسْلمٍ، لأنَّ النبيَ صَلَّى اللهُ عليه وَسَلَّمَ كانَ يحذِّرُ مِنَ الفتنِ”.

ولقدْ شبهَ النبيُ ﷺ إحاطَةَ الفتنِ بالنَّاسِ بالليلِ المُظلمِ فقالَ: «إنَّ بينَ يديِ السَّاعةِ فِتَنًا كقِطعِ اللَّيلِ المظلِمِ يُصْبِحُ الرَّجلُ فيها مؤمنًا ويُمسي كافِرًا ويُمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا القاعدُ فيها خيرٌ منَ القائمِ والقائمُ فيها خيرٌ منَ الماشي والماشي فيها خيرٌ منَ السَّاعِي قالوا فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم». أخرجَهُ أبو دَاودَ.

والفتنُ أنواعٌ أعظمُهَا مَا يتعلقُ بالعقيدةِ كالبدعِ والشُبُهاتِ، وفتنةِ الخوارجِ والقَدريةِ، والقولِ بخلقِ القُرآنِ، والالحادِ، والتفرقِ وتعددِ الجماعاتِ، وفتنةِ التكفيرِ والتفجيرِ، والثوراتِ والمُظَاهَراتِ، ومَا أدتْ إليهِ مِنْ استحلالِ الدماءِ المعْصُومَةِ، وتشويهِ صورةِ الإسلامِ، وتسليطِ الأعداءِ، ناهيكُم عَنْ إضْعَافِ الأمةِ، وجرِ شَبَابِها إلى أتُونِ الفتنِ، وجَعْلِهِمُ وقُودَاً لتنفيذِ مخططاتِ مشبوهةٍ.

ومِنَ الفتنِ، مَا يبثُ عَبرَ الوسائلِ المُعاصرةِ مِنْ عَرضٍ سَاقِطٍ، ومحتوىً مَاجِنٍ، وأفكَارٍ مُنحرِفَةٍ، وتزيينٍ للفاحِشَةَ، وإغرَاءٍ بالعَداوةِ والبغضاءِ، تستهدِفُ منظومَةَ القِيمِ والأخْلاقِ، وصرعَاهَا الدهمَاءُ والأغرارُ.

وفي مَوعظةٍ نبويةٍ بليغةٍ ذَرَفتْ مِنهَا العيونُ ووجِلتْ منها القلوبُ، فقالَ الصحابةُ: كأنَّها موعظةُ مودعٍ فماذَا تعهدُ إلينا؟ قالَ ﷺ:«أُوصيكم بتقوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ والسمعِ والطاعةِ، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعِشْ مِنكُم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكُم بسنتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدِينَ المهدِيِّينَ تمسّكوا بِهَا، وعَضّوا عليهَا بالنَّواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعَةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ». رَوَاهُ أبو دَاودَ وَالترمذِيُّ.

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: ” إذا انقطعَ عنِ النَّاسِ نُورُ النبوةِ وقعوا في ظلمةِ الفتنةِ وحدثتْ البدعُ والفجورُ ووقعَ الشرُ بينهُم”، وقال الشيخُ ابنُ بازٍ: ” فكلُ أنواعِ الفتنِ لا سبيلَ للتخلصِ منها والنجاةِ منها إلا بالتفقهِ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ ، ومعرفةِ منهجِ سَلفِ الأمةِ منَ الصحابةِ -رضي اللهُ عنهم- ومَنْ سلكَ سبيلَهُم مِنَ أئمَةِ الإِسلامِ ودُعَاةِ الهُدى”.

ولزومُ جَماعةِ المسلمينَ وأئمتِهِم، نجاةٌ منَ الفتنِ، فقدْ أمرَ اللهُ بالجمَاعِةِ وَنهى عَنِ الفُرقَةِ؛ فَقالَ: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾. والجماعةُ رَحْمَةٌ، والفُرْقَةُ عَذَابٌ، وإنَّما يَأكلُ الذئبُ مِنَ الغَنمِ القَاصِيةِ.

والنجاةُ فِي اعتزالِ الفتنِ وأهلِهَا؛ فإنَّهُ مَنْ انتصبَ إليهَا وخاضَ فِيهَا قابلتُهُ بشرِهَا فأهلكتهُ وصَرعَتهُ؛ كمَا قَالَ ﷺ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ». متفقٌ عَليهِ.

والفِرَارُ مِنَ الفتنِ منهجٌ نبويٌ؛ قَالَ ﷺ: «يُوشِكُ أنْ يَكونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بهَا شَعَفَ الجِبَالِ ومَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ». رَوَاهُ البُخَارِيُ.

والاشتغالُ بالأعمالِ الصَالِحَةِ مَنْجَاةٌ مِنَ الفتنِ؛ قَالَﷺ: «بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا». رَوَاهُ مُسلمٌ.

والعبادةُ في الفتنةُ واختلاطُ أمورِ النَّاسِ فضْلُهَا عظيمٌ، قَالَ ﷺ: «الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ». رَوَاهُ مسلمٌ. فالنَّاسُ يَغْفلُونَ عنهَا ولا يتفرغُ لهَا إلا القليلُ.

والعِلمُ الشَرعِيُ، ولزومُ العُلماءِ الراسِخينَ، حَصَانةٌ مِنْ الأفكارِ الهدامةِ، ودورٌ الأسرةِ كبيرٌ في ذلكَ، قالَ ﷺُ: «كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عنْ رعِيَّتِهِ». مُتفقٌ عَلَيهِ.

والدعاءُ وصيةُ النبيِ ﷺ في الفتنِ فيقولُ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ». رَوَاهُ مُسلمٌ.

ألا فاتَّقوا اللَّهَ -عِبَادَ اللهِ- واشكرُوهُ عَلى النَّعم والعطايَا، واحمدُوهُ على مَا دفعَ عنْكُم مِنَ النقمِ والبلايَا، واعتبرُوا بمنْ حُولَكُم؛ فكم منْ وَطَنٍ اختلفتْ فِيهِ الكلمةُ، وانحَلَ عِقدُ الأمنِ، وسقطتْ هيبةُ الحُكمِ؛ فَلا إمامَ ولا جَمَاعَةَ؛ فتقاتلَ أهلُهُ، وتمزقَ شملُهُ، فَصَارُوا أحَادِيثَ.

أقوُلُ قَوْلِي هَذَا، واسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلكُم ولسَائرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِرُوهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرَحِيمُ.

الخُطبَةُ الثَّانيةُ:

الحمْدُ للَّهِ وكَفَى، وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الذينَ اصْطَفى، وَبَعدُ؛ فاتقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التقوَى،واعلموا أنَّ سبيلَ النجَاةِ عَزيزٌ لا يبصرُهُ إلا مَنْ هَداهُ اللهُ إليهِ، ولا يثبتُ عليهِ إلا مَنْ ثبتهُ رَبُهُ، وتوقَى الفتنَ لئلا تُصيبَهُ، والسلامةُ لا يعْدِلهَا شيءٌ.

اللهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمُسلمينَ، واحْمِ حَوزَةَ الدِينَ، وأنْجِ عِبَادَكَ المُستَضْعَفِينَ، فِي كُلِ مَكَانٍ وكُنْ لَهُم وَليًا وظَهيرًا.

اللهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرمينَ الشَريفينَ، ووليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ.

اللهُمَّ اصْرِفْ عنَا الشرورَ والفتنَ، مَا ظَهَرَ مِنهَا ومَا بَطنَ.


([1]) للشيخ محمد السبر جامع موضي السديري بالرياضhttps://t.me/alsaberm

تحميل المرفقات

إضغط هنا