القولُ السديدُ في فضائل كلمة التوحيد

خطبة القولُ السديدُ في فضائل كلمة التوحيد

الحمد لله بيدِه مفاتيحُ الفرَج، شَرَع الشرائعَ، وأحكمَ الأحكامَ، وما جعل عليكم في الدِّين من حرج، وأشهد ألا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، قامت على وحدانيته البراهين والحِجَج، وأشهَدُ أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، المفَدَّى بالقلوب والمهج، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ساروا على أقوم طريق وأعدَلِ منهج، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

عباد الله: يقول تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [محمد: 19]، شهِدَ بها لنفسِه، وأشهَدَ عليها أفضلَ خلقِه، فقال: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]. قال ابنُ القيم رحمه الله: “فتضمّنت هذه الآية: أجلَّ شهادةٍ وأعظمَها وأعدلَها وأصدقَها، من أجلِّ شاهدٍ، بأجلِّ مشهودٍ به”.

لا إله إلا الله معناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وركناها النفي والإثبات فــ “لا إله” نافياً العبادة عما يعبدُ من دون الله، “إلا الله” مثبتاً العبادة لله وحده، فهو وحدَه المستحقُّ بأنْ تصرفَ له جميعُ العباداتِ، وتكونَ خالصةً له دون سواه ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

وقد ورد في الكتاب والسنة المطهرة من الفضائل الجمّة لهذه الكلمة، والخصالِ الحميدةِ، ما يَصْعبُ استقصاؤه، فهي كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وخُلِقَتْ لأجلها جميعُ المخلوقاتِ، وبها أَرسلَ الله تعالى رسلَه، وأنزلَ كتبَه، وشرعَ شرائعَه، ولأجلِها نُصِبَتِ الموازينُ، ووضعت الدواوينُ، وقام سوقُ الجنّة والنار، وبها انقسمتِ الخليقةُ إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجّار، فهي منشأُ الخلقِ والأمر، والثوابِ والعقابِ، وهي الحقُّ الذي خُلِقَتْ له الخليقةُ، وعنها وعن حقوقها السؤالُ والحسابُ، وعليها يقعُ الثوابُ والعقابُ، وعليها نُصِبَتِ القبلةُ، وأُسِّسَتِ الملّةُ، ولأجلِها جُرِّدتْ سيوفُ الجهادِ، وهي حقُّ اللهِ على جميعِ العبادِ، فهي كلمةُ الإسلام، ومفتاحُ دارِ السلامِ، وعنها يُسْألُ الأولون والآخرون، فلا تزولُ قدما العبد بين يدي الله حتى يُسْأَل عن مسألتين:

ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فجوابُ الأولى: بتحقيق “لا إله إلا الله” معرفةً، وإقراراً، وعملاً. وجواب الثانية: بتحقيق “أن محمداً رسول الله” معرفةً، وإقراراً، وانقياداً وطاعةً.

لا إله إلا الله كلمةٌ طيبةٌ شامِخةٌ، ضرب الله بها المثل ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [إبراهيم: 24].

وهي كلمةُ الله العُليا، وبها كلَّم الله مُوسَى كِفاحًا من غير واسِطة ﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾ [طه: 14]، وهي أعلى شُعب الإيمان، قالصلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ بِضْعٌ وسبعونَ، أو بِضْعٌ وستون شُعْبَةً، أفضلُها: قولُ لا إله إلا الله، وأَدْناها: إمَاطَةُ الأذى عن الطريق»؛ رواه مسلم.

وهي كلمة التقوى‏‏، كلمةٌ خالِدةٌ جعلها الخليل إبراهيم ﴿ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الزخرف: 28]، وهي القولُ الثابتُ، من تمسَّك بها ثبَّتَه الله في الدنيا والآخرة، ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27].

هي أولُ دعوة الرُّسُل ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن قال‏: «‏إنك تأتي قومًا أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادةَ ألا إله إلا الله»؛ متفق عليه.

من قالها عُصم مالُه ودمُه، قال صلى الله عليه وسلم: «‏من قال لا إله إلا الله، وكفرَ بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابُه على الله»؛ رواه مسلم.

لا إله إلا الله من ماتَ عليها كانت له الجنةُ إما ابتِداءً أو مآلاً، وإن دخلَ النارَ بذنُوبِه لم يُخلَّد فيها؛ ففي حديث عِتبان قال صلى الله عليه وسلم: «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله»؛ رواه البخاري.

لا إله إلا الله موجبةٌ لشفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة رضي الله عنه: من أسعَدُ الناسِ بشفاعتِك يوم القيامة يا رسول الله؟ قال: «أسعدُ الناسِ بشفاعَتي يوم القيامة: من قال: لا إله إلا الله خالِصًا من قِبل نفسِه»؛ رواه البخاري.

لا إله إلا الله ثمن الجنة، ومن كانت آخر كلامه دخل الجنة، وتوجب المغفرة، وهي أحسن الحسنات، وتجدد ما درس من الإيمان في القلب، وهي أفضل الأعمال، وأكثرها تضعيفًا، وهي أمان من وحشة القبر وهول الحشر، وهي شعارُ المؤمنين إذا قاموا من قبورهم‏، وتفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، وأهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقها فإنهم لابد أن يخرجوا منها.

واعلموا رحمكم الله أنّه مع هذه الأجور الكريمة والفضائل العظيمة؛ فإن هذه الكلمة لا تُقبل من قائلها ولا تنفعه بمجرّد نطقه بها، بل لا بد من معرفة مدلولها، واستيفاء شروطها.

قيل لوَهْبِ بن مُنبه رحمه الله: أَليستْ لا إله إلا اللهُ مفتاحُ الجنةِ؟ قال: بلى؛ ولكنْ ما مِن مفتاحٍ إلا وله أسنان، فإذا جئتَ بمفتاحٍ له أسنان فُتِحَ لك، وإلا لم يُفتَح، وقيل للحسن البصري رحمه الله: إنَّ ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة! قال: من قال لا إله إلا الله فأدّى حقّها وفرضَها دخل الجنة، ولما دفن الفرزدق امرأته، قال له الحسن: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة ألا إله إلا الله منذ سبعين سنة، فقال الحسن: نِعمَ العُدّة، لكن لـ لا إله إلا الله شروطاً، فإياك وقذف المحصنات.

لا إله إلا الله فيها الأمنُ والطمأنينةُ والهدايةُ ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

قال ابن القيم: صَلاحُ العالَمِ في أن يكونَ اللهُ وَحْدَه هو المعبود، وفَسادُه وهَلاكُه في أن يُعبَدَ معه غَيرُه.

فما أعظم لا إله إلا الله في لفظها ومعناها، ويا سعادة من لهج بها، ويا سرور من عاش لأجلها ومات عليها!

هي أجملُ الكلمات قُلْها كلما ضَجَّ الفؤادُ وضاقت الأزمانُ 

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وحققوا كلمة التوحيد بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم، وصُونوها عما يُناقِضُها أو يقدَحُ فيها؛ تفوزوا وتفلحوا ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].

اللهم اجعلنا من أهلِ لا إله إلا اللهُ حقًّا وصدقًا، إنَّك سميعُ الدعاءِ وأهلُ الرجاءِ، وأنت حسبُنا ونِعمَ الوكيل.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واجعل هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.