حبُ الوطن

حبُ الوطن

الحمد لله؛ الملك الديان؛ هدانا للإيمان، ورزقنا الأمن في الأوطان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، كُلَ يوم هو في شأن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، المبعوث إلى الثقلين الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فأُوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.

عباد الله: لقد خلق الله تعالى الإنسان مفطورًا على حب وطنه والأُنس به، فهو راحة قلبه، وطمأنينة نفسه، وملاذه عند الشدائد، وموئل أحبّته وخلّانه، ومكنون ذكرياته.

حبُ الوطن شعور تخفق له القلوب، وشوق تتحدث به الأفئدة، وحنينٌ يكمن في الوجدان، ومودةٌ وألفةٌ تتزين بها كرام النفوس وأهل المروءات والشيم.

حبُ الوطن عديلُ الروح؛ فقد ربط القرآن الكريم بين حُب الوطن وبين حب النفس، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾. وربط بين الدين والوطن، كما في قوله سبحانه: ﴿لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾.

والنبي ﷺ ابتلاه الله بترك وطنه، فاضطره المشركون للخروج منه، فآلمه ذلك أشد الإيلام، وهيَّج في نفسه الكريمة معاني كثيرة، ومشاعر كبيرة، فوقف يُخاطب مكة، بكلمات مؤثرة؛ فقال: «وَاَللَّهِ إنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ».

وقد كان حب مكة والمدينة في سويداء قلب النبي ﷺ: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد». رواه البخاري.

حبُ الوطن أمرٌ فطريٌ مركوزٌ في النفوس، فكيف إذا كان الوطن هو مكة بلدَ الله الحرام، والمدينة مهاجرَه عليه الصلاة والسلام، أحبَّ البلاد إلى الله تعالى، وكان المواطن هو محمَد بن عبد الله ﷺ أرقُ الناس قلباً، وأصفاهم نفساً، وأقربهم مودة! فقد ظل حب وطنه ملازماً له في حله وترحاله، وسائر أحواله.

أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ -أَيْ أَسْرَعَ بِهَا-، وَإِذَا كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا؛ مِنْ حُبِّهَا». قَالَ الْحَافِظُ ابن حجر:” فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ حُبِّ الْوَطَنِ وَالْحَنِينِ إِلَيْهِ”. الفتح (3/782).

حبُ الوطن فضيلةٌ لم تزل الأمم على اختلاف أجناسها متفقة عليها، قال عمر رضي الله عنه: عَمَّر اللهُ البلدانَ بحب الأوطان، وقيل: من علامة الرشد أن تكون النفس لبلدها تواقة وإلى مسقط رأسها مشتاقة، وقال بعضهم:

بلادٌ أَلِفْناهَــــا عَلـــى كُلِّ حالــــةٍ *** وقَدْ يُؤلَفُ الشيءُ الذي ليس بالحَسَنْ

وَنَسْتَعذَبُ الأرضَ التِي لاَ هَواء بِها *** ولا ماؤُهَا عَــذْبٌ ولكِنَّها وَطَــنْ

حبُ المسلم لوطنه حبٌ مشروع يجتمع فيه الحب الغريزي والحب الشرعي، وكيف لا يحب وطن الإسلام، الذي تقام فيه شعائر الدين، وتعلى فيه كلمة الله، ويُحكَّم فيه شرعه، وفيه الحرمان الشريفان، فمحبته عبادة وقربة، ودين وإيمان.

ومن لازم هذا الحب الدفاع عنه لأنه بيضة الإسلام، وحوزة المسلمين، ومهوى أفئدتهم، أمنه أمن المسلمين، واستقراره استقرار العالمين قال تعالى: ﴿جَعَلَ اللهُ الكَعبَةَ البَيتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ﴾.

الوطنُ الآمن نعمة من الله تعالى تتطلب شكرًا وعرفانًا تترجمه الأقوال والأفعال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.

الوطنُ الآمن يقوم على الائتلاف والاجتماع، فقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، السمعُ والطاعة لولي الأمر بالمعروف؛ في المنشط والمكره، والعُسر واليُسر، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾. ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.

حبُ الوطن علامته الالتزامُ بالعقيدة والدين، واتباع منهج السلف الصالحين، ومراعاة الثوابت والأخلاق، وجميل الأعراف والعادات.

حبُ الوطن برهانه الحرص على سلامته، وصون مكوناته، واحترام نظامه، وتوقير ولاته، وتقدير علمائه، والحفاظ على موارده ومكتسباته، وعوامل رخائه.

حبُ الوطن يبنى على خلق التعاون، والأخوة الإيمانية، ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾.

حبُ الوطن برفع رايته، وعدم خيانته، وحراسته من أعدائه، وكف شرور دعاة الفتن والخراب الذين يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون.

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ وألا أرى*** غيري له الدهرَ مالكا

فقد ألفَتْهُ النفسُ حتَّى كأنه لها***جسدٌ إن بانَ غودِرْتُ هالكا

وفي ظل ما نراه من أوطان صار أمنها مهزوزًا، وحماها مسلوباً، والخوف في قراها ممدوداً؛ بسبب مخالفة أمر الله بالتفرق والاختلاف، والعتو والكفر بنعمه الله؛ فإن هذا يحتم علينا الاعتبار، ومعرفة قدر النعم، فالسعيدُ من جُنَّب الفتن والمحن، وأخذ الدروس والعبر.

الوطن الآمن نعمة لا تضاهى، وكنز ثمين يبحث عنها الملايين، والمملكة العربية السعودية، نموذج مشرق متلألئ بين الأوطان، يرتدي -بفضل الله- حلل الأمن والاستقرار، وتيجان الرخاء والازدهار، مجتمعٌ واحدٌ تُظله راية التوحيد، ويحميه سيف العدل، بقيادة حكيمة، مؤتمنة على وطنها، وراحة شعبها، حتى أضحى موئلاً يقصده الناس من كل مكان، ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾.

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وأقولُ قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتمسكوا بدينكم، ففيه عصمة أمركم، وحسن عاقبتكم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾. فاشكروا الله على نعمه وآلائه، فالشكر قيدُ النعم الموجودة، وصيدُ النعم المفقودة، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾.

هذا وصلوا رحمكم الله على نبيكم محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم الله بذلك جل في علاه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾؛ اللهم صَلِّ وسَلِّم على النبي المصطفى المختار، وعلى المهاجرين والأنصار وعلى جميع الآل والصحب الأخيار.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.

​‏‏اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.

اللهم وَفِّق خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تحب وترضى، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى.

اللهم آمن حدودنا واحفظ بلادنا وانصر جنودنا واجمع شملنا على طاعتك ونصرة دينك.

اللهم من أراد بلادنا وسائر بلاد المسلمين بسوء فاشغله في نفسه، ورد كيده في نحرِه، واجعل تدبيره تدميرا عليه يا سميع الدعاء.