المكاسب المحرمة والتستر التجاري (خطبة )

المكاسب المحرمة والتستر التجاري

الحمد لله، الملك العلام، أشهد أن الحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى، ونبيه المرتضى، ورسوله الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، إِن هو إلا وحي إلا يوحى؛ أما بعد:

فاتقوا الله – عباد الله – حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

عباد الله، ينشغل الناس كثيرًا بأمر الرزق، ويسعون إلى توفير دخل أكثر والوصول لمكانة أكبر، وقد بيَّن الله حب الإنسان للمال؛ فقال تعالى: ﴿ وَتُحبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20]؛ لذا طمأننا الله على مسألة الرزق؛ فقال سبحانه: ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ﴾ [الذاريات: 22]، ونهى عن استعجاله بالباطل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29].

ومن النصائح الغالية التي زود بها المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه، وشرح لهم فيها فلسفة الحلال والحرام في الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك))؛ [رواه مسلم].

فالله تعالى طيب؛ أي: منزه عن النقائض والخبائث، ولهذا فإنه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا خالصًا من شبهة الحرام؛ فلا يقبل صدقة جاءت من طريق حرام، ولا التصدق بالرديء من الطعام، وقد أمر المؤمنين بالأكل من الطيبات، والبعد عن المحرمات؛ فالكسب الحرام له عواقبه الوخيمة فهو ينزع البركة، ويمنع إجابة الدعاء، وشؤمه وبيلٌ في الدنيا والآخرة.

وبنظرة سريعة إلى أحوال البعض نجد أمراضًا اجتماعية تفشَّت بسبب تكالب الناس على جمع المال بشتى الوسائل دون مبالاة؛ مصداقًا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليأتين على الناس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام))؛ [رواه البخاري].

ومن أعظم صور الكسب الحرام أكل الربا: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِوَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: “يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 276]”، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لعن آكل الرِّبا ومُؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هُم سواءٌ)).

ومن أبشع صور المال الحرام والخيانة أكل مال اليتيم: قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]، ومن الحرام والظلم منع النساء من حقهن في الميراث حتى لا ينتفع أولادهن وأزواجهن به: ﴿ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7]، فللإناث من أولاد الرجل الميت حصة من ميراثه، من قليل ما خلف بعده وكثيره، حصة مفروضة، واجبة معلومة، وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث.

وهناك من يأكل حقَّ الأجير فيكون خصمًا لله يوم القيامة؛ وفي الحديث: ((قالَ اللَّهُ: ثَلاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ يَومَ القِيامَةِ: رَجُلٌ أعْطَى بي ثُمَّ غَدَرَ، ورَجُلٌ باعَ حُرًّا فأكَلَ ثَمَنَهُ، ورَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أجِيرًا فاسْتَوْفَى منه ولم يُعطِه أجرَه))؛ [رواه البخاري].

ونجد بعضهم يقف سدًّا منيعًا أمام مصالح العباد حتى يحصل على رشوة ونسبة بصورة مباشرة وغير مباشرة؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الرَّاشي والمُرتشي))، وهدايا العمال غلول، وسرقة المال العام غلول، وكذلك الاختلاس من شركة أو مؤسسة يعمل بها.

والمماطلة في قضاء الدين وسداد حقوق الناس، ومنهم من يقترض عاقدًا العزم على عدم السداد؛ وقد تناسى قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومَن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)).

ومن الكسب الحرام الخيانة، والغشُّ في التجارة قال صلى الله عليه وسلم: ((من غشَّنا فليس منا))، ومن المال الحرام القمار والميسر، والاختلاس من شركة أو مؤسسة يعمل بها.

ومن المعاملات المحرمة التي تتضمن الغرر ومخالفة أنظمة العمل والعمال ما يسمى “التستر التجاري”، الذي حرمه علماؤنا لأنه مخالفة لولي الأمر، وضرره والضرر يزال، واشتماله على الغرر والخديعة والحيلة، واعتباره من العقود التي يخالف ظاهرها باطنها، ولكونه من أكل أموال الناس بالباطل، وغيرها.

فحذارِ حذار من الكسب الحرام؛ فقد سماه الله تعالى سحتًا، وذم اليهود الذين استحلوا المحرمات: ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 62]، والسُّحتُ يشمل كلَّ مال اكتُسِب بالحرام، يقول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ رجالًا يتخوَّضون في أموالِ الله بغير حقٍّ، فلهم النارُ يومَ القيامة))؛ [رواه البخاري]؛ أي: يتصرَّفون في أموالِ المسلمين بالباطل، ومثل هذا الوعيد يجعل المرء العاقل يفكر قليلًا في ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، حتى لا يعود عليهم بالضرر العاجل والآجل.

اللهمَّ أغنِنا بحلالك عن حَرامك، وبفضلِك عمَّن سواك.

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهديِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.

‏بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، وتوكلوا على الله حق توكله: ﴿ فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ [العنكبوت: 17]، ولا تستعجلوا الرزق بطلب الحرام فتقطعوا أواصر الإجابة والصلة بالله بأكل الحرام، واجتنِبوا جمع الأموال من المسالك المعوجة والطرق الملتوية والمخالفة للشريعة الإسلامية، وتبصروا فيما تقدمون عليه من معاملات ومساهمات، فمن اتقى الله، وقاه الله ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه.

ثمَّ اعلموا – عباد الله – أن الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيم تزكو به حياتنا، وتسعد به أنفسنا، وتطمئن به قلوبنا، ألا وهو الإكثار من الصلاةِ والسلام على النبيِّ المختار، اللهم صلِّ وسلم على نبينا ورسولنا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين.

اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا ونائبه لكل خير، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اشفِ مرضانا وارحم موتانا وموتى المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.