جريمة الاتجار بالبشر
الجمعة 5 / 2 / 1441 هـ
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: حق الحرية أكثر الحقوق التصاقاً بحق الحياة، والحرية حق من حقوق الإنسان، فالإنسان يولد حراً، وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله، وأن العبودية الحقة لله -تعالى- وحده لا شريك له؛ قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات:56-58].
إنَّ من حق الإنسان أن يكون حرّاً فلا يُستَعبد، حُرَّاً فلا يُتاجر به، حُرَّاً فلا يُغتصب حقه كيف وقد قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء:70]. كيف والإنسان خليفة الله في أرضه، قال -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:30]. كيف، وقد أسجد اللهُ -تعالى- الملائكةَ لأبيه آدم عليه السلام : (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ)[الأعراف:11].
وحق الحياة يتطلب حماية الكرامة الإنسانية؛ لأنَّ الكرامة تمثل عِزَّة النَّفس والإحساس المعنوي بالحياة بعد الإحساس المادي بالوجود فلا يُباع امرؤ ولا يُشرى، ولا يُهان إنسان ولا تُداس كرامته.
وتعاني المجتمعات البشرية من جريمة الاتجار بالبشر، وتتضافر جهودهم للقضاء عليها من خلال المواثيق والعهود وهو أحد أشكال الرقّ في العصر الحديث، وهو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، ومن صوره: الاتِّجار بالنِّساء والأطفال؛ لأغراض الدَّعارة، وبيع الأعضاء البشريَّة، وعمالة السُّخْرة، واستغلال خدَمِ المنازل وإهانتهم، وبيع الأطفال لِغَرض التبنِّي، واستغلالهم في النِّزاعات المُسَلَّحة، وأعمال التسوُّل، والاستغلال السيِّئ للمهاجرين بصفة غير شرعيَّة.
وقد جاء الإسلام بنوره الوضاء وحريته الحقيقية بتحريم وتجريم أشكال وظواهر الاتجار في البشر بصوره المختلفة، بل هو أول من حارب الاتجار بالبشر، فحرَّم أن يُباع الإنسان الحُرُّ أو أن يُشترى، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: “قَالَ اللَّهُ: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ“(رواه البخاري).
فجاءت نصوص الشريعة بتحريم العمل والخدمة قسراً، كما جاءت داعية إلى رعاية حق الأجير ورعاية الخدم، والترهيب من ظلمهم وهي كثيرة. فقد روى ابن ماجه عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه“.
وأخرج البخاري بسنده عن المَعْرُور بْنَ سُويْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الغِفَارِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: قال النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ“.
وقام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ليلةً ليقضي بعض أمره فقيل له: لو أمرت بعض الخدم فكفوك، فقال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.
وفي كل هذه الأحاديث والآثار تأكيد على رعاية الأجير وعلى حرمة ظلمه، فما بالكم بالاتجار به للسُّخرة والدعارة وبيع الأعضاء؟!
كما جاءت شريعة الإسلام بتحريم وتجريم الفاحشة والاستغلال الجنسي للنساء فقد حرم الإسلام الزنا وجرَّم فاعله، قال -تعالى-: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)[الإسراء:32]. ومن هنا سدَّت الشريعة الإسلامية كل المنافذ المؤدية إلى المتاجرة بأجساد النساء، وذلك حينما شرعت الحجاب والجلباب وطالبت المرأة بالعفة والاحتشام في الملبس: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)[الأحزاب:59]، وأمرت بغض البصر وحفظ الفروج وستر العورات ومنعت الاختلاط والسفر والخلوة بلا محرم.
والزنا في الإسلام جريمة عقوبتها الرجم إن كان محصنًا، والجلد إن كان غير ذلك، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[النور:2]؛ نعم هما عقوبتان مؤلمتان قاسيتان رادعتان لكن:
فقسا ليزدجروا ومن يَكُ راحماً *** فليقسو أحياناً على مَنْ يرحم
ونهي القرآن عن استخدام النساء في البِغَاء، وهو أقبح صور الاتجار والاستعباد قال الله -تعالى- في سورة النور: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النور:33].
ومعنى: (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي: الشيء الذي تكسبه الأَمَة بفَرْجِها، والولد ليُسترق فيُبَاع. (وَمَن يُكْرِههُّنَّ) أي: يقهرهن (فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ) لهن (رَّحِيمٌ) بهن.
قال ابن كثير في تفسيره: “كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَمَةٌ، أَرْسَلَهَا تَزْنِي، وَجَعَلَ عَلَيْهَا ضَرِيبَةً يَأْخُذُهَا مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ، نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ”.
وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فِي شَأْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ الْمُنَافِقِ، كانت له جاريتان، وكان يُكرههما على الزنا، ويضربهما عليه ابتغاء المال وكسب الولد، فجاءت الجاريتان تشتكيان للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله هذه الآية.
وبناء على ما سبق فإن الدين الإسلامي لا يقر دُور الدعارة وبيوت المتعة، ولا يسمح بما يسمى السياحة الجنسية، ولو درَّت من الأموال ما درت؛ لأنها من المال الحرام الذي يَهلك ويُهلك أهله معه.
كما حرم الإسلام العضل وهو منع الزوجة من الزواج بالكفء الذي ترتضيه، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ)[البقرة:232].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض“. وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا تُنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تُنكح البكر حتى تُستأذن“.
كما جاءت شريعة الإسلام بتحريم نكاح الشغار وهو أن يزوِّج الرجل ابنته، على أن يزوجه الآخر ابنته، أو يزوجه أخته، على أن يزوجه أخته وليس بينهما صداق. ففي الصحيحين عن ابن عمر: “أن رسول -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الشغار“. وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “لا شغار في الإسلام“(رواه مسلم).
وفيما يتعلق بشأن الطفل في الإسلام فقد حرم المتاجرة بالأطفال بهدف التبني، خلافاً لاتفاقية حقوق الطفل وبعض القوانين الوضعية في الشرق والغرب، فالتبني لا يجوز في الإسلام، كل إنسان يُدعى لأبيه ذكراً كان أو أنثى، قال الله -تعالى-: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ)[الأحزاب:5].
وكان التبني في الجاهلية معروفاً، كان زيد بن حارثة يدعى زيد بن محمد، فلما أنزل الله الآية نسب إلى أبيه زيد بن حارثة، واستقرت الشريعة بأنه يجب أن يُنسب الناس إلى آبائهم، وأنه لا يجوز التبني لأيّ إنسان، أما التربية والرعاية فلا بأس إذا ربى ولد غيره وأحسن إليه على أنه ينسب لأبيه لا إليه فلا بأس بذلك، أما أن يقال: ولد فلان، وليس ولد فلان فلا يجوز مطلقاً.
والشواهد والحوادث كثيرة التي تدل على اهتمام الإسلام بالطفل قبل أن يظهر إلى الحياة وهو جنين في بطن أمه، فجعل الدية في الاعتداء عليه وقتله في بطن أمه، وجرَّم إجهاضه بعد نفخ الروح فيه، وهذا مالم تصل إليه كلُّ الاتفاقيات والإعلانات العالمية والمواثيق حتى اليوم.. ناهيك عن حق الحضانة والرضاعة والنفقة.
وجريمة الاتجار بالبشر الآن تتسربل بصور عديدة مارستها المجتمعات الجاهلية في القديم والحديث؛ فقد مارس الغرب والدول الأوربية هذا السلوك الجاهلي مع الزنوج، والهنود الحمر، وفي الدول التي استعمروها، فمارسوا أبشع صور التمييز العنصري في حقهم كما كان في جنوب إفريقيا، إضافة إلى ظهور عصابات المتاجرة بالأطفال والنساء، ناهيك عن استغلال هذه العصابات للكوارث الطبيعية والحروب لممارسة نشاطها الإجرامية.
وبعد -عباد الله- فما أحوج العالم اليوم أن يسترشد بهدي الإسلام وتعاليم القرآن والسنة وأن يصرخ فيه صارخ المسلمين بالكلمة الخالدة التي سجلها التاريخ للخليفة العادل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة..
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله : إن الأنظمة المرعية التي سنتها المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بالاتجار بالبشر وغيرها تلتقي مع مقاصد الشريعة ومبادئها، إيمانًا بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات:13].
وإن واجب المسلمين يحتم عليهم ضرورة الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية وأحكامها في شتى مناحي الحياة، ومنها تحريم الاتجار بالإنسان وإهدار كرامته، وكذلك تنمية المراقبة الذاتية، وتحقيق مرتبة الإحسان في الإسلام، وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والكفّ عن الظلم وبخس الناس حقهم، وضرورة نشر أحكام هذا الدين ومحاسنه للعالمين باللغات الأجنبية.
وواجب الآباء والأمهات والمربين يفرض عليهم تلافي أسباب وقوع بعض الفتيات والأطفال ضحية لهذه الجريمة، والحرص على معالجة الأسباب والدوافع القضاء على العوامل التي تهيئ المناخ المناسب للاتجار بالبشر من قنوات الدعارة، ومواقعها، وغير ذلك.
وصلوا وسلموا…