خطبة : أول محطات العام
أول محطات العام
ألقيت يوم الجمعة 7 محرم 1440هـ جامع الأميرة موضي السديري بالرياض
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن مـحمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، ﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله، ببداية العام الجديد، تطالعنا محطة جديدة من محطات العام الجديد، وهي أول محطات التزود بالوقود: وقود الطاعة والتوبة والإنابة والعمل الصالح، إنها محطة شهر الله المحرم، تلك المحطة المتكاملة الشاملة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا الشهر العظيم له مزية دينية وتاريخية، فقد روى البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم؛ أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه؛ فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه)).
وقد كان صيام يوم عاشوراء واجبًا قبل أن يُفرض صيام رمضان، فلما فُرض صيام رمضان، أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة، تقول حفصة رضي الله عنها: “أربع لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدَعُهن: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر”؛ رواه أحمد، والنسائي، وصححه الألباني.
وسُئل ابن عباس رضي الله عنهما عن صيام عاشوراء، فقال: “ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم”؛ متفق عليه.
وبيَّن النبي عليه الصلاة والسلام أن صيام هذا اليوم يكفر ذنوب سنة كاملة فضلًا من الله ومنة فقال: ((صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله))؛ رواه مسلم.
وروى مسلم أيضًا عن ابن عباس قال: “حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى؟ فقال: ((فإذا كان العام القابل إن شاء الله صمتُ التاسع))، فلم يأتِ العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
نعم عباد الله، إن شهرنا هذا الذي نحن بصدده هو محطة مهمة في حياة السائرين والسالكين إلى الله تبارك وتعالى؛ فالمسافر لا بد له من وقفة يتزود فيها، ويربي نفسه ويهذبها، ويدربها على التنسك والتعبد، فيعُبُّ من الطاعات، ويستكثر من الصالحات، وهكذا المسافر إلى الله لا بد أن يتزود بوقود الطاعة والتقوى؛ ليَقْوى فيما بقي من الطريق.
عباد الله، عاشوراء يوم معظم من شهر الله المحرم، اختصه الله بفضيلة، وميزه بذكرى؛ فهو يوم الشكر، ويوم الصوم، ويوم الصبر والنصر، ويوم المعجزة والموعظة، يوم انتصار المؤمن المستضعف على علو المتكبر المتجبر، واستعلاء قوة الإيمان على جبروت الطغيان، يوم نجى الله فيه المستضعفين المضطهدين، وأرغم فيه أنوف الجبارين المتكبرين في الطين.
إن هذه المحطة العظيمة – وهي شهر الله المحرم ويوم عاشوراء – لها دروس ووقفات يستفيد منها المؤمنون، فنِعَمُ الله تعالى تُقابل بالشكر؛ فموسى عليه السلام قابل نعمة إنجاء الله له ولقومه، وإهلاك عدوه فرعون وجنده بالصوم شكرًا لله تبارك وتعالى.
والمسلم يتميز بعقيدته ومبادئه، فحين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود يصومون عاشوراء، ورأى أنه عمل صالح المؤمنون أولى به، همَّ بصيام التاسع، قال النووي رحمه الله: “قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في العبادة، والأول أولى، والله أعلم”. ا.هـ.
وهكذا يربينا الإسلام على التميز والاعتزاز بديننا، وبَلِيَّةُ بعض المسلمين اليوم التقليد والتشبه بغير المسلمين في الأفكار والمذاهب، والأزياء، والتقاليد، حتى كاد أحدهم ينسلخ من شخصيته.
ودرس في الولاء والبراء أن هذه الأمة المباركة أحق بموسى، وأولى به من أتباعه الذين بدلوا دينه، وحرفوا كتابه، فنحن إليه أقرب وبه أحق؛ لأننا أمة التوحيد الذي هو أصل دعوة الرسل جميعًا، وإن اختلفت شرائعهم؛ فنحن أولى بإبراهيم وبموسى عليهما السلام لأن دينهم واحد: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68].
وهكذا يشعر المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنون من قوم موسى عليه السلام المحنة، كذلك ينبغي أن يتجاوزها المسلمون في كل عصر وملة.
وسنة الله تعالى في خلقه الابتلاء والامتحان؛ فلا ينبغي للمؤمن أن يجزع ويفزع؛ فإن الذي شق لموسى طريقًا في البحر يبسًا، قادر على أن يشق لأمة الإسلام طريقًا رشدًا في مِحَنِها وأزماتها.
يوم عاشوراء تذكير بالفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، والنصر بعد أن بلغت القلوب الحناجر وظن الناس بالله الظنون.
إن الصراع بين الحق والباطل مهما امتد أجله وطال أمده؛ فإن العاقبة للتقوى، لكن ذلك يحتاج إلى التسلح بالصبر والاستعانة بالله تبارك وتعالى، الذي قال في نهاية قصة موسى مع فرعون في سورة الأعراف: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف: 137]، فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد ربهم، ولا يغرنهم تقلب الذين كفروا في البلاد؛ فما هو إلا متاع قليل، ثم يكون النصر والظفر بإذن الله.
والمسلم عباد الله يتبع ولا يبتدع في يوم عاشوراء؛ إذ إن كل ما يُروى في ذلك غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُستحب فيه سوى صيامه وصيام يوم قبله؛ فيجب على المسلم اجتناب ما أُحدث فيه من البدع والمحدثات، ومن ذلك: نعي الحسين رضي الله عنه على المنابر وفي المجالس مع إظهار الحزن والنياحة، وأسوأ من هذا سب الصحابة الكرام، وقذف أمهات المؤمنين وسادات المؤمنين، وغيرها مما لم يأذن به الله ولم يسنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، ولا عمل به أحد من صحابته رضي الله عنهم أجمعين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فاتقوا الله عباد الله حق التقوى.
عباد الله، إن محطة شهر الله المحرم ويوم عاشوراء هي تأكيد على ما ينبغي أن يحرص عليه المسلم في هذا الشهر وبقية دهره، من تجديد علاقته مع ربه جل وعلا، والإقبال عليه بصالح العمل؛ فالمؤمن الحق لا يدع فرصة لتجديد عهده مع الله إلا اغتنمها، ولا بابًا للتوبة ومكفرات الذنوب إلا طرقه، فكيف بيوم يكفر ذنوب سنة ماضية؟
وأنت أخي المسلم في سفر سيعقبه سفر إلى قبرك؛ فتزود من هذا لذلك، واغتنم مواسم العبادة قبل فواتها؛ فالحياة مغنم، والأيام معدودة، والأعمار قصيرة.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمنًا مطمئنًّا رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر جنودنا، وثبت أقدامهم، وانصرهم على العدو يا قوي يا عزيز.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونِعَمِه يزدكم، ولَذِكْرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.