ظلم النفس


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واتبع هداه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد، عباد الله، ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

عباد الله: الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وظلم النفس أن يحقِّق العبد لها شهوةً عاجلة ليورثها شقاء دائمًا، وسمي ما يجره المرء على نفسه من أليم العقاب ظلمًا؛ لأنه وضع نفسَه في غير الموضع الذي خُلقت من أجله، فإنها مخلوقة لتكون مؤمنةً بالله تعالى عابدة له، فإذا استعملها في غير ذلك يكون قد ظلَمَها؛ لما جلب لها من الشقاء.

ولا يخلو امرٌؤ من ظلمه نفسَه؛ لما في الإنسان من نوازع الشهوات والشرور؛ لذلك لما نزل قول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لم يَظلِمْ نفسَه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: ﴿ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]))؛ أي: إن الظلم درجات، فأعظَمُه وأخطره الشركُ بالله تعالى – عياذًا بالله منه – ومنه دون ذلك من الكبائر والمعاصي.

ولما كان كثير من الناس أو أكثرهم أَسْرى ظلمِ أنفسهم، نجد الله سبحانه يحذر عباده منه، فيقول في الأشهر الحرم: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36]، وهو نهي عن ظلم النفس عمومًا، لكنه في الأشهر الحُرم أشد نهيًا، ونجد القرآن الكريم يُذيِّل نواهيَه بالتحذير من ظلم النفس، فيقول في شأن التعدي على حدود الله تعالى، وهي محارمه التي حرَّمها على عباده: ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1]؛ أي: لم يحسن إليها، بل جلب لها شقاءً ونقمة، حيث تعذَّب بفعل المعصية، وكان بوسعه ألا يوردها هذا المورد.

ولما كان المرء واقعًا في ظلم النفس لا محالة – إلا من عصمه الله تعالى – فإن الواجب عليه أن ينقذها ويخلصها من ذلكم الظلمِ، وذلك بالمبادرة بالتوبة التي تغسل الحَوْبة، كما كان من أبَوْينا آدمَ وحواء عليهما السلام، فإنهما لما أدرَكا شؤم المخالفة بالأكل من الشجرة التي نُهيا عن أكلها، بادَرا بالتوبة النصوح فقالا: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]، فتاب الله عليهما وغفر لهما، وكذلك كليم الله موسى، عليه الصلاة والسلام، لما أدرك ظلم نفسه بانتصاره للذي هو من شيعته على الذي هو من عدوِّه، فوكزه فقضى عليه، ولم يكن يقصد قتْلَه، فما وسعه إلا أنِ ابتهل إلى الله تعالى بالاعتذار والإشفاق على نفسه، فقال: ﴿ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [القصص: 16]، فكان تشريعًا سماويًّا لمن وقع في هذا الظلم، أن يبادر بالإنابة إلى ربه، وسيجد الله غفورًا رحيمًا: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ﴾ [آل عمران: 135]، فإن هذا ثناءٌ بالغ على من اعترف بالحقيقة التي وصل إليها، وأناب إلى مولاه سبحانه.

وقد يجهل كثير من الناس ظُلْمَه نفسَه، ولو أنه تفكر قليلًا لأدرك ما هو عليه من ذلكم الظلم، فكم هو مقصر في الواجبات والطاعات، حتى وإن أدَّاها عددًا ومظهرًا، فهل أداها على وجهها من الإخلاص والصدق؟! وكم هو واقع في الشبهات التي تقود إلى المحرَّمات، فإنه لا يكاد يخلو اليومَ امرٌؤ منها في مطعمه وملبسه ورزقه ومعاملاته وواجباته الاجتماعية، وكم هو مقصر في أداء الحقوق التي عليه لربِّه ووالديه وأهله، وكم وقع في المخالفات صغيرة كانت أم كبيرة، إلى غير ذلك، فكل ذلك يستدعي أن يعترف المرء لربه بظلم نفسِه ويسأله المغفرة، وهذا ما أرشد إليه المصطفى أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، لما قال: علِّمْني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: ((قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم((؛ رواه البخاري ومسلم. فلنحرص على هذا الدعاء؛ فهو جدير أن يقبله الله تعالى ويغفر لنا ظلْمَنا أنفسَنا.

ومن ظلم النفس من يرى في أحكام الله ما لا يحقِّق له شهواته المرغوبة فيتبع هواه، فيرى في المعصية تحقيقًا لشهوته العاجلة لذَّة لا تعدلها لذَّة، وينسى أنها تحقِّق له شقاء دائمًا، وكم يعترض على أحكام الله؛ لأنها تمنعه من ارتكاب المعاصي، ويبحث عما يستحلُّها به، فيتبع الشهوات ويستمع لأهل الباطل، من الرؤوس الجهال الذين يُفتون بغير علم، هؤلاء الذين يرون في تحليل الحرام اجتهادًا يفتح لهم الطريق الى الحرام، فيقعون في الكبائر والمحرَّمات ويسقطون الواجبات، والسبب اتباع الهوى.


بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة…

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ وكفى، وسمع الله لمن دعا، فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى.

وبعد، فإن الظلم والجهل من طبع الإنسان، إنه كان ظلومًا جهولًا، وهو هالك ولا شك بارتكاب الظلم، ناجٍ بأداء الأمانة التي هي المحافظة على طاعة الله وحدوده، والسكون إلى طاعة الله تعالى، وهو ناجٍ إذا نهى النفس عن الهوى، وترك الظلم فإنه ظلمات، ولن يتركه العبد حتى يعلمَ أنه مهلكة لا محالة.

وصلُّوا وسلموا على رسول الله محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه بإحسان وسلم تسليمًا مزيدًا.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

اللهم قنا برحمتك شر ما قضيت، وارفع عنا هذا الوباء.

اللهم ادفَع عنا الغلا والوبَا والرِّبا والزلازِل والمِحَن، وسوءَ الفتن، ما ظهرَ منها وما بطَن، عن بلدنا هذا خاصَّةً، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّةً يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وموتى المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.