فضائل العشر
خطبة فضائل العشر 1440 هـ للشيخ محمد السبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
معاشر المؤمنين، إن من رحمة الله تعالى أن جعل للعباد مواسم مباركة تُضاعف فيها الحسنات، وتكفَّر فيها السيئات، ومن هذه المواسم الفاضلة عشر ذي الحجة التي أقسم الله بها في كتابه الكريم، فقال سبحانه: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ [الفجر: 1، 2]، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ”، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: “وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ”؛ رواه البخاري وغيره.
وهذا من رحمة الله بعباده، فإنه لَما كان ليس كل واحد قادرًا على الحج جعل موسم العشر مشتركًا بين الحجاج وغيرهم، فمن لم يقدر على الحج شرع له أن يعمل في العشر عملًا يفضل على الجهاد في سبيل الله.
هذه الأيام لها مكانةٌ عظيمةٌ عند الله تعالى، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات، عالية الدرجات، متنوعة الطاعات، ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، أو تطوَّع بها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء وتوحيد الخالق، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها ولا يساويها سواها.
ومما يشرع في هذه العشر صيام هذه الأيام ما عدا اليوم العاشر، وهو يوم النحر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل الصالح فيها، والصيامُ من أفضل الأعمال الصالحة، وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يصومها، وكذلك مجاهد، وأكثر العلماء على القول بصيامها؛ قال النووي رحمه الله: “صيامها مستحب استحبابًا شديدًا”؛ ا.هـ.
ويشرع فيها الإكثار من ذكر الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 28]، وهي أيام العشر عند جمهور العلماء، فيستحب الإكثار من ذكر الله في هذه العشر المباركة من التهليل والتحميد والتكبير، وأن يجهر بذلك الرجال؛ روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “.. فأكثروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحميد”.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما، وَكَانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى، فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ، وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ، حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا”.
التكبير: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد)،وفي هذه العشر المباركة يوم من أفضل الأيام وهو يوم عرفة الذي هو أفضل الأيام، ذلكم اليوم الذي أكمل الله فيه دينه، وأتم نعمته على عباده. قال حبر من أحبار اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: آيةٌ في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود، لاتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا؛ قال عمر: وما هي؟ فقال اليهودي: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال عمر: رضي الله عنه إني أعلم متى نزلت، وأين نزلت، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة.
وصوم يوم عرفة يكفِّر الله به صغائر الذنوب التي قارفها العبدُ في السنتين الماضية والباقية، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة، فقال: “صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، إِنِّي أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ”؛ أخرجه مسلم.
فيستحب صيامُه لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له أن يصومه، وفطره أفضل تأسيًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وقف بعرفة مفطرًا، وذلك ليتقوى على الوقوف وذكر الله تعالى ودعائه.
هذا اليوم العظيم هو يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف؛ كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاء”.
وفي هذه العشر المباركة يوم عظيم من أيام الله تعالى وهو يوم النحر، يوم الحج الأكبر، يوم عيد الأضحى المبارك، يكمل المسلمون حجَّهم بعد وقوفهم بعرفة، وشرع لهم فيه ذبح القرابين من هدي وأضاحٍ، قال صلى الله عليه وسلم: (إن أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر ثم يوم القَرِّ)؛ أخرجه أبو داود بإسناد جيد، ويوم القر: هو اليوم الذي يلي يوم النحر؛ لأن الناس يقرون بمنى.
ومما يستحب ويتأكد في هذه العشر الفاضلة التقرب إلى الله تعالى بذبح الأضاحي، فالأضحية سنة مؤكدة في حق من يقدر عليها؛ قال أَنَس رضي الله عنه: “ضَحَّى النَّبِيُّ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا”؛ متفق عليه، وقال ابنُ القيم رحمه الله: ” فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع الأضحية وكان يضحي بكبشين، وكان ينحرهما بعد صلاة العيد، وأخبر أن من ذبح قبل الصلاة فليس من النسك في شيءٍ، وإنما هو لحم قدمه لأهله، هذا الذي دلت عليه سنته وهديه”؛ ا.هـ.
فليحرص المسلم عليها؛ لأن فيها امتثالَ أمر الله جل وعلا بذبح القربان على اسمه وحده لا شريك له، وإحياء سنة أبينا إبراهيم عليه السلام، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيها التوسعة على الأهل والعيال والفقراء والمساكين يوم العيد، وفيها من الحكم العظيمة ما لا يحفى على ذي بصيرة.
ومن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا إذا دخلت عشر ذي الحجة؛ عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي، فليُمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي)، وفي رواية: (فلا يَمَسَّ من شعره وبشرته شيئًا)؛ أخرجه مسلم.
وهذا النهي خاص بصاحب الأضحية لا المُضحَّى عنه من زوجةٍ وأولادٍ، فلا يعمهم النهي؛ لأن النبي كان يضحِّي عن أهل بيته ولم يُنقل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك، وكذا من توكَّلَ عن شخص، فإنه لا يَحرُمُ عليه الأخذ، بل هو خاص بالموكِّل لا الوكيل.
ومن أخذَ شيئًا من أظفاره أو أبشاره أو شعره معذورًا، فلا شيء عليه كالناسي، والذي به أذى في شعره أو ظفره، أما العامد فهو آثمٌ ولا كفارةَ عليه، بل عليه التوبة والاستغفار.
وفي هذا الشهر المبارك أيام التشريق التي هي أيام منى؛ قال صلى الله عليه وسلم: “أيام التشريق أيام أكل وشرب”، وفي رواية: “وذكر لله عز وجل”؛ أخرجه مسلم.
وهي الأيام المعدودات، وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وقد أمر الله بذكره في هذه الأيام المعدودات، من تكبير وتحميد وتهليل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فاعلموا عباد الله أنه يستحب للمسلم في هذه العشر أن يكثر من نوافل الصلوات؛ كالسنن الرواتب، وصلاة الليل، وصلاة الضحى، فالمحافظة على النوافل سببٌ من أسباب محبة الله، ومن نال محبة الله حفِظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه؛ لأنها تكمل النقص وتجبر الكسر وتسد الخلل، وبالجملة فينبغي للمسلم أن يسابق في هذه العشر بكل عمل صالح، ويكثر من الدعاء والاستغفار، ويتقرب إلى الله بكل قربة.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسَه *** ففي صالح الأعمال نفسك فاجعلِ
فاغتنموا هذه الأيام التي هي أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، وجدُّوا في السباق، وضحوا تقبَّل الله ضحاياكم وتقرَّبوا إلى مولاكم.